الملفّ السوري في العلاقات التركية الخليجية
سؤال مهم: هل علاقة الدول الخليجية بتركيا متساوية؟ الجواب كلا، غير أن هناك تقاربا كبيرا ومركزيا في علاقات الدولة التركية في النسخة الجديدة من حزب العدالة والتنمية التي خرجت من فكرة التحالف مع الشعوب العربية، في موسم الربيع العربي، والعودة إلى البراغماتية الواسعة التي لا حدود لها، في ثنائية الإنقاذ الاقتصادي بكل مساحةٍ ممكنة، ودائرة واسعة تشمل طهران وتل أبيب والمحيط الرسمي العربي بقضّه وقضيضه، ولذلك تأتي مبادرة رئيس الإمارات محمد بن زايد بأن يكون أول من اتصل لتهنئة أردوغان بفوزه بالرئاسة ضمن هذا السياق.
يُطرح هنا موقف حكومات الدول العربية من بقاء شخصياتٍ إسلامية في تركيا لغرضٍ إنساني، أو مباشرة متابعتهم واقع دولهم وصراعها السياسي من خلال ما تمثله إسطنبول بالذات من حراك شعبي وحضور عربي، يتواصل وجدانياً، وبات اليوم في قرار الدولة التركية منحصراً في الاستمرار المشروط، في حدود المعيشة الإنسانية والاستثمار الإيجابي لصالح الاقتصاد التركي، والذي يتعرّض أيضاً لحالات مراجعة، من الأمن والهجرة التركية، بحسب وضع المفاوضات الدورية بين أنقرة والعواصم ذات العلاقة. ولا يترتب على هذا الموقف أي غطاء سياسي من الدولة التركية في حال تعرّض واحد من هذه الشخصيات خارج تركيا لاعتقالٍ تعسّفي، أو مطاردة غير عادلة ورُحل إلى النظام السياسي الذي يتعقبه، أما داخل تركيا فإن بقاءه مشروطٌ بوقف أي نشاط سياسي من داخل حدود تركيا.
حرّرنا هذا الملف لكونه يُطرح في سياق توتر العلاقات بين أنقرة ودول عربية وبالخصوص الخليجية، وقد أضحى اليوم تحت المعالجة المشتركة، باستثناء النظام الإرهابي في دمشق الذي يرفض الاتفاق المشترك مع تركيا تحت مظلة موسكو وطهران، ولكن أنقرة تواصل تسوية ملف اللاجئين والارتدادات التي عاشتها منذ الثورة السورية، فالملفّ، في كل الأحوال، رهن التصفية دولياً وعربياً وإقليمياً، وحين تكتمل مقاربات الحل، يُرتّب الانسحاب التركي من الشمال السوري، بعد ضمان ما يهم تركيا، وهو حصار أي مساحة ممكنة لإقليم كردي فيدرالي، ذي استقلال ثقافي داخل الحدود السورية.
اتّخذت الرياض مساراً منفصلاً عن المعالجة التركية، عبر تأهيل النظام في دمشق وإشراكه عربياً، وعودة النظام إلى بسط سيطرته ليست مشكلة لدى أنقرة
ورغم أن ملف الحدود يخصّ الدولة التركية، وأزمتها مع اللاجئين العرب، والتي انفجرت فيه الروح القومية العنصرية، أو اليمينية المنحازة في أعلى مستوياتها منذ قيام حركة الآباء المؤسسين للقومية التركية الحديثة في عهد الدولة العثمانية، إلا أنهُ مشتبكٌ بعلاقات أنقرة وبعض الدول الخليجية، فالرياض اتّخذت مساراً منفصلاً عن المعالجة التركية، عبر تأهيل النظام في دمشق وإشراكه عربياً، وعودة النظام إلى بسط سيطرته ليست مشكلة لدى أنقرة. فهي تسعى، في نهاية الأمر، إلى تطبيق هذا البند من ملف سوتشي حتى تخفّف مسؤوليتها عن مناطق اللاجئين، وضمان ترحيل أكبر عدد ممكن منهم، وهو مشروعٌ لم يكن مرتبطاً بالدعاية الانتخابية، ولكن جرى العمل عليه وتنفيذه عملياً قبل الانتخابات، وأعلن الرئيس أردوغان أنه سيصل إلى مليون إنسان في مرحلته الأولى في الشمال السوري. في حين يطرح مشروع جامعة الدول العربية الذي قادته الرياض تأهيل النظام أولاً، أي تمكينه سياسياً وجغرافياً. والغريب أن نظام الأسد ليس حريصاً لا على هذا المسار ولا ذاك، فهو زاهدٌ في عودة اللاجئين، ولا يرغب في الدخول إلى مساحة ضغط وتحمّل مسؤولية، فهو يفشل اجتماعياً واقتصادياً في تأمين أقلّ ما يمكن من احتياجات الإنسان السوري. وفي الوقت نفسه، كانت تجربة النظام مع ترحيل أزماته ما بعد الثورة لصالحه، وخصوصاً أن الثورة بعدما تبعثر ميدانها العسكري، وارتدّ على الأهالي والناس، وخضع لمصالح الجيوبولتيك الإقليمي، فإن المدار اكتمل أيضاً على الهياكل السياسية، وهي بقية هياكل لا يُبالي بها النظام في ظل عودته العربية، ودعمه الدولي المزدوج، فضلاً عن حلفه التاريخي الأيديولوجي مع ايران. وهو هنا أمرٌ مهم للملف الخليجي، وخصوصاً السعودية، في اعتقادها الخاطئ بأن الضخّ في اقتصاد النظام سوف يُحقق لها مساحة اختراقٍ عربية، فتحالف الأسد وطهران وبنيته العقائدية الطائفية، وحتى حبل موسكو معهما، أقوى بمراحل من رهان الرياض.
المساحة في تسوية الملف عبر التدخل الأميركي تعبر في مضيقٍ صعب لسيطرة الروس على ميدان سورية
سيبقى هنا تدخّل المركز الغربي، وخصوصا الأميركي، في جمع المسارين التركي والسعودي لصالح تسويةٍ تضمن بقاء مساحة مستقلة لنفوذها وحضورها، مقابل القطب الروسي الصيني المشترك، الذي بات حاضراً في الهلال الخصيب، وفي دفء العلاقات السعودية الروسية الجديدة، ورغم الخلاف بين الرياض وواشنطن في سلة الإنتاج، وفي ملفاتٍ لوجستية أخرى، إلا أن واشنطن لا تزال الحليف التاريخي، كما أن الرياض تريد في رسائل الاقتراب من موسكو تعديل موقف واشنطن لصالحها بعد الفتور والتوتر اللذين سبقا تصفية ملف الشهيد جمال خاشقجي، وغادره الجميع في تركيا والغرب.
وهذه المساحة في تسوية الملف عبر التدخل الأميركي تعبر في مضيقٍ صعب لسيطرة الروس على ميدان سورية، وإن نجح إشغال الغرب لهم في حرب أوكرانيا، وبالتالي، جمع واشنطن قبل انصراف بايدن من فترته الأولى، لحليفيها أنقرة والرياض، ممكن نظرياً وحتى سياسياً، لكنه يحتاج إلى قبول عام من موسكو، نحو خروجٍ آمن لما تبقى من سورية، وبالذات شعب الثورة. فهل ستنجح هذه المهمة رغم الشكوك الطبيعية، في سقف واشنطن الذي غدر بالسوريين، في اتفاق أوباما/ بوتين، وكم هو مؤلم أن يكون المشهد الأخير لملف الثورة السورية تائهاً بين هذه الخطوط.
وباستثناء الصوت العاطفي، ومبادئ الثورة الباقية في وجدان الشباب، لم يعد للثورة أي مقعد لا في مفاوضات سلام ولا مدافعة ميدان، وتحوّلت إلى بطاقة هزيلة تتقاذفها الأطراف، وإنما المدار الإنساني هنا هو أمل النجاح لمخرج غوثٍ للمعذّبين في الأرض، ثم العودة، بعد الدرس المروّع، إلى قصة الطريق الأخير للحرية السورية، وكيف تُحمى إرادة النضال قبل اقتحام المسرح وانهياره.