المليشيات العراقية ودائرة الاستهداف الإسرائيلية

24 سبتمبر 2024

من مراسم تشييع قائد كتائب حزب الله العراقية أبو حيدر الخفاجي في بغداد (22/9/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يبدو أنّ شهية الحرب، التي يريدها بنيامين نتنياهو شاملةً في المنطقة لإحداث التغيير الذي يتحدّث عنه، مفتوحة، خاصّة بعد أن تيقّن أنّ كل ما كان يقال عن وحدة الساحات لمحور المقاومة ليس سوى تصريحات لا تعدو أن تكون أحاديثَ للاستهلاك المحلّي، فلا إيران ردّت على الضربات الإسرائيلية المتتالية والمتوالية والكبيرة، ولا حزب الله لديه نيّة للردّ على ما تعرّض له من عمليات كبيرة وضربات أكبر، بدأت باغتيال القائد في حركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية، وأعقبها (في الضاحية الجنوبية أيضاً) اغتيال القائد العسكري لحزب الله، فؤاد شكر، ثمّ جاءت عملية " البيجر"، وأخيراً (ولا يبدو أنّه آخراً) عملية استهداف وحدة الرضوان داخل الضاحية الجنوبية.
إزاء هذا الموقف، مُؤكَّد أنّ نتنياهو سيذهب بعيداً في عملياته العسكرية، ولا يبدو أنّه سيكتفي بمحاصرة حزب الله، وربّما إبعاده إلى ما بعد الليطاني، كما كان إعلام العدو يتحدّث قبل أشهر، وربّما تمتد يده التي أطلقتها أميركا في المنطقة إلى مناطق أخرى، قد ترى فيها أميركا مناطق إزعاج في هذه المرحلة من مراحل الصراع والتسويات الكبيرة، ونشير هنا إلى العراق الذي يضمّ نحو 72 مليشيا مسلّحة، تأتمر أغلبها بأوامر إيرانية مباشرة.

لا يُراد للفصائل العراقية أن تنجرّ نحو مواجهة تفقد معها إيران مجالها الحيوي في العراق اقتصادياً وسياسياً

المشكلة في العراق أنّ لا انفصال بين تلك المليشيات وشكل الدولة وجسدها الحكومي، فالمليشيات هي الدولة والدولة هي المليشيات، ما يجعل التعامل معها يواجه بتحدّيات كثيرة، فالولايات المتّحدة معنية منذ عدة سنوات بترتيبات الوضع الداخلي العراقي، ودعم جسد الدولة من أجل أن يكون قادراً على النهوض بما عليه من أعباء، وذلك ليس من أجل سواد عيون أهل أرض السواد، وإنّما لتفعيل عجلة المصالح الاقتصادية ومصالح إسرائيل وتنشيطها بالدرجة الأولى، فواشنطن معنية بالدرجة الأولى بترتيب وضع آمن لدولة الكيان.
سعت أميركا إلى ترتيب الوضع الداخلي العراقي بالتعاون مع شركاء لها داخل جسد الدولة العراقية، وحتّى بالتعاون مع الشريك الفعلي لاحتلال العراق (إيران)، وهذا ليس خافياً على أحد، فكثيراً ما كانت الحكومات العراقية عقب كلّ انتخابات، تُشكَّل بتوافق، ولو في حدّه الأدنى، بين طهران وواشنطن، ومنذ آخر مواجهة مسلحة "سياسية" جرت بين سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر وفصائل شيعية أخرى في المنطقة الخضراء عام 2022، عقب انتخابات 2021، التي اعترضت عليها فصائل شيعية موالية لإيران؛ لم يشهد العراق كثيراً من المواجهات المسلّحة، بل كادت أن تختفي، ما خلا المواجهات الكلامية السياسية، وتلك المتعلّقة بقضايا الفساد، التي يبدو أن جميع ساسة البلد متورّط فيها.
هناك اليوم فصائل شيعية مسلّحة بتسليح ثقيل، وأعلنت هذه الفصائل، في أكثر من مناسبة، عملياتٍ، قالت إنّها طاولت الأراضي الفلسطينية المحتلّة، من دون أن يٌرى أيَّ دليل ملموس على ذلك، وفي الوقت ذاته، تبنّت هذه الفصائل عمليات استهداف لقواعد أميركية في العراق، منها قاعدة عين الأسد غرب العراق، فضلاً عن استهداف تعرّض له قبل أيّام معسكر أميركي قرب مطار بغداد.
لا أميركا ولا إيران، الشريك في احتلال العراق، يرغبان برؤية النار تصل إلى الأراضي العراقية، كلاهما يسعىيان لإبعاد البلد عن شرر المواجهة المستعرة في فلسطين ولبنان، ما عدا بعض الشرر الذي يصل عبر المُسيَّرات الأميركية التي استهدفت في أوقات متباعدة عناصر تابعة لتلك المليشيات بعضها خارج العراق، كما حصل مع القيادي في حزب الله العراقي، أبو حيدر الخفاجي، الذي قُتل في غارة إسرائيلية في طريق مطار دمشق قبل أيّام.
قد تراهن أميركا على العملية السياسية لتكون كفيلةً بإبعاد الفصائل المسلّحة عن المشهد، ولكنّه خيار لا يبدو واقعياً في ظلّ هيمنة تلك الفصائل على المجال السياسي والإعلامي والاجتماعي، ناهيك طبعاً عن الفضاء الاقتصادي، الذي تعتبر هذه المليشيات لاعباً رئيساً فيه، بل شريكاً أساساً للمشاريع الاقتصادية كلّها.
لا تريد إيران للفصائل العراقية أن تنجرّ نحو المواجهة، على الأقلّ في المرحلة الحالية، فهي تدرك عواقب ذلك، وهي لا تريد أن تخسر مجالاً حيوياً لها ولاقتصادها، بالإضافة طبعاً إلى المجال السياسي الذي حوّلت من خلاله العراق حديقةً خلفيةً، ورجع الصدى لما تريده طهران.
نتنياهو هو الآخر لا يبدو معنيّاً حالياً باستهداف الفصائل العراقية المسلّحة، فهي، وفقاً للمنظور العسكري، لا تُشكّل أيَّ تهديد لدولة الكيان، وكلّ ما فعلته خلال عام تقريباً من الحرب على غزّة بيانات ومواقف لم تُشكّل أيَّ إضافة لجبهة غزّة، على عكس الحوثيين في اليمن. بالتالي، يمكن القول إنّ تلك الفصائل ستبقى آمنةً في سربها العراقي، إلّا إذا قرّرت إيران التخلّي عنها من خلال دفعها للمواجهة، وهذا يبدو بعيد حالياً، خاصّة أنّ حراك إيران الفعلي لنصرة حليفها الأهم حزب الله، بعد جولة من الضربات القاتلة التي وجهها العدو، تبدو متخاذلةً في كثير من تفاصيلها.

قد تُخيّر الفصائل العراقية بين مالها وسلاحها، وربّما نجدها قد ذابت في أتون عجلة الاقتصاد

ستبقى الجبهة العراقية، وفقاً لتلك المعطيات، هادئةً، ولكن إلى حين، فالوصول إليها ودفعها إلى المواجهة ممكن، والأسباب موجودة، ولكن يبدو أنّ هناك سيناريو آخر يُعدُّ للساحة العراقية، ربّما من بين أبرز ملامحه إجبار تلك الفصائل على الاختيار بين مالها وسلاحها، ومن يعرف تلك الفصائل يدرك جيداً أنّها لن تتردَّد في اختيار مالها واقتصادها، الذي بنته طوال سنوات، لكن هل سيكون ذلك مُرضِياً لإيران؟
بتقدير كاتب هذه السطور أنّ إيران دولة تُفاضل دائماً بين الخيارات التي تتوفّر أمامها، وهي في لحظات كثيرة تصرّفت بناءً على مصالحها لا على أساس المبادئ والشعارات التي ترفعها، حينها، ربّما نجد أنّ تلك المليشيات العراقية قد ذابت في أتون عجلة الاقتصاد، التي إنْ تحرّكت؛ ستدهس كثيراً من الشعارات.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...