الناس على دين أم ملوكها
وجدتُ مثل أرخميدس، ليس في الحمام، وإنما بعد تدبّر لقاءات وجهاء وأعيان قُدّر لهم مقابلة حافظ الأسد وحسني مبارك وسماع شهاداتهم، أنّ الأسد ومبارك يشبهان عبد الفتاح السيسي القذّة بالقذّة والجزمة بالجزمة، وهم جميعا ينطقون بالسفاسف، وقحون، ويشتمون ضيوفهم أو يستهزئون بهم أو يهددونهم بالقتل، وليسوا كما تُعرض صورتهم في الإعلام الرسمي، صافية، كاملة، لا شيّة فيها. صار السيسي قدوة للمفكرين والزعماء، حتى أن رئيس تونس اتخذه أسوة حسنة يقتدي به من غير مذبحة مثل رابعة، فما الذي اختلف في عصرهم عن عصر عبد الفتاح السيسي؟
ظهر لي أنّ العلة في أن وزراء إعلام الطغاة السابقين كانوا حصيفين، يقتّرون في نقل مقابلات الرؤساء السابقين، ويبخلون بها أشدّ البخل، ولم تكن في عصرهم هواتف فيها كاميرات وسماعات تسرق المجالس وتنقلها تسريبًا أو تهريبًا، وأن الطغاة السابقين كانوا مبتلين بالمعاصي ويتسترون.
نحن في عصر كسر السحر وهتك الأستار، ونكران المروءة، حتى أنّ سحرةً باتوا يتاجرون على وسائل التواصل بكشف أسرار سحرهم، وبيعها بالمشاهدات، فهي مجدٌ ومال، ومن الصعب انتزاع المشاهد الأسير في قمقم هاتفه، وقد دعس تحت أنقاض الصور والأفلام ووسائل الاتصال. ويسعى كثيرون إلى جذب المشاهدات بشتّى الأمور، بأجساد النساء العارية، بالمفارقات وبالمشاجرات الوهمية، بالكاميرات الخفية والكمائن، وأنا أتابع ساحرًا يمنيًا سابقًا يكشف أسرار عالم السحر وخفّة اليد وسرقة العقول، وقد استطاع التكسّب من هتك الأسرار أكثر مما كان يكتسبه من السحر نفسه، واستطعت كشف إحدى الخدع السحرية التي كنت أظنّ أن بها جنًا وعفاريت. وتساءلت، عن دافعة عبد الفتاح السيسي للطفو فوق عرش مصر، حتى أعجب به فنانون كبار لطالما سخروا من الدكتاتورية، ومفكّرون وكتابًا قضوا أعمارهم في القراءة وتقليب أوجه الحكمة، بل تمنّى رسام سوري معروف أن تكون سورية مثل مصر، ونسي الديون والسجون وعصر الليمون وجوع البطون.
وتذكّرت أيام النضال، وأن عبد الحليم قنديل أعدّ برنامجًا عظيمًا اسمه كارت أحمر للرئيس، وأن إلهام شاهين حلّت محل قنديل، ورفعت كارت أحمر للشعب، فما تفسير الأمر؟ يمكن أن نقول، ببساطة، إن الأمر هو السيف، لكن ذلك يحتاج أيضًا إلى توضيح، فقد وجدت مفكرين ومثقفين في أميركا أيضًا يثنون على السيسي، ويحمدون بعض مناقبه، وهم في نجوة من سيف عنترة، هل هو سحر الصورة، وجمال الخطاب؟ ثم وجدت دافعة السيسي وطفو الطغام فوق الأنام:
وهو أن الناس تردّت تعليمًا، وأن للإعلام مفعول السحر. في الخمسينيات كانت الناس تضحك على إسماعيل ياسين، لكنها تضحك الآن على محمد سعد، بل إن محمد سعد لم يعد مضحكًا. وكانت تصفّق لأم كلثوم، وهي تهتف لحمّو بيكا، لكن هذا التفسير لم يعجبني كثيرًا، أو أني أبحث عن تفسيرٍ يصلح لأن يروى في مجلس، لا أن يقرأ في صحيفة، فاستعنت بالحكايات، ووجدت تفسيرًا للمسألة في حكاية "أذنا الملك كأذني الحمار" الشعبية المعروفة، وخلاصة الحكاية أن الحلاق هو الوحيد الذي عرف بحقيقة أذني الملك البهيمية، وأن للملك أذني حمار، ولأن المعرفة عذابٌ والجهل راحة، كان الحلاق يذهب إلى الغابة، ليتخفف من ثقل السرِّ ووعثائه بالصياح، فيهتف بأعلى صوته: أذنا الملك كأذني الحمار، فالسرّ كبير، والبوح به للأصدقاء والخلان مغبّة وعاقبته غير محمودة، فكان يرتاح قليلًا كمن أزيلت حصوةٌ من مثانته ويعود. كان الحلاق هو أهم آلات الإعلام القديم.
أما في زماننا، فقد ظهر الملك وكشف عن رأسه، وتباهى بأذنيه الحماريتين، وهو شديد البطش، يعاقب كل من يباهي بأذنيه البشريتين، والناس جائعة، وقد أكلت لحم الحمير ونمت لبعضهم آذان الحمير، وتطبّعت بطباعها، ومن لم تنبُت له أذنان حماريتان، سعى في وضع قبعة على شكل أذني حمار، تقية، واجتهد في النهيق، حتى يسلم من الرفس.
سُئلت نوارة نجم إبّان ثورة يناير: إذا لم يرحل مبارك ماذا أنتم فاعلون، فقالت، بنباهة المصري الفصيح: نرحل إحنا بقى. .. وبما أن الرحيل ممنوع، فقد وجب على الناس أن تنزح من هيئاتها البشرية إلى هيئة السيد الرئيس الحيوانية. الأشياء تتقلص ببرودة المناخ والبشر تتحوّل بحرارة السياسة.