النصف الفارغ
يكاد التشاؤم عندنا يكون مرضاً اجتماعياً يسيطر على النسبة الأعظم من أبناء شعبنا المكافح على جميع الصعد، وتكاد عبارة "انظر إلى النصف الملآن يا أخي" التي يحلو لكثيرين إلقاؤها على أذني ذلك المواطن البائس، اليائس مما يجري حوله، تكون قرص الدواء الوحيد الذي يُقدّم له، ذلك البائس الذي ولد في عهد سيادته، وسيخطف عزرائيل روحه في عهد سيادته أيضاً، من دون أن يعرف الفرق بين سيادته وغير سيادته، البائس الذي كان قد سمع أنّه في زمن ماضٍ ما، كانت هناك صحف كثيرة تصدر، وأنّ الإنسان كان يستطيع أن يعبّر عن رأيه، وأن رئيس الوزراء قد قدّم استقالته، لأنّ شاعراً قد كتب بحقه قصيدة هجاء يشكّك فيها بنزاهته، الشاعر الذي لو فعلها الآن لما عرف الذباب الأزرق له مكاناً. والذي كان قد سمع أيضاً أنّه في زمن سحيق ما، جرت انتخابات مبكّرة، لأنّ الرئيس لم يكن على قدر المسؤولية التي أنيطت به، وأنّ الطلاب كانوا يتشاجرون في أثناء انتخابات اتحاد الطلبة، وأنّ أباه وعمه كانا ينتميان إلى حزبين مختلفين. ذلك البائس الذي يرى باقي خلق الله في باقي بلاد الله، بعد انتهاء الدوام الرسمي، يمارسون الفرح، ولا يمارسون عملاً آخر من أجل سدّ الرمق، وأنّهم في عطلتهم السنوية يسافرون بين القارّات، بينما يحلم هو برحلة إلى بحر بلده الذي سمع عنه كثيراً، وغالباً ما يموت قبل أن يكحّل عينيه برؤية أمواجه، ويمتّع بدنه بالعوم في مياهه الدافئة، وإن أسعفه حظه لا يحظى بأكثر من رحلةٍ إلى ضفاف أحد السدود القريبة التي توشك مياهها على النضوب. البائس الذي يمضي عمره يرى في المنامات أنّ لديه سيارة، وحين يلتقي مهاجراً جاء ليقضي إجازته بين أهله يحسُده لأنّه يعرف أنواع السيارات، ويحاول بأيّ شكل أن يُخْرسَ طفله الذي يطالبه بشراء درّاجة هوائية، الذي تراوده أحلام يقظة بأنّ له بيتاً، لكنّه يخشى آخر يوم في الشهر، كما يخشى أفعى ستبتلعه، لأنّ أحداً سيطرق بابه، مطالباً بإيجار المنزل. البائس الذي، قبل كلّ شيء، ولد مسلوب الكرامة، وغالباً ما يطلق، في أوقات الفراغ، العنان لمخيّلته التي تسمح لنفسها بأن تصوّر له موقفاً يتمتع فيه بكرامته؛ مثلاً أن يحضر إلى بيته رجل أمنٍ ليقتاده، فيسأله إن كان يملك مذكّرة اعتقال، فيرد رجل الأمن بأنّه لا يملك مثل هذه المذكّرة، فيشير إليه هو بسبابته إلى الخارج، قائلاً: انقلع... فيعتذر رجل الأمن وينقلع، وتدمع عيناه وهو يشاهد ذلك الموقف، ويشعر بسعادة خاطفة، لكنّه ينظر في ما حوله، خشية أن يكون أحد قد استرق النظر إلى مخيلته، فشاهده على شاشتها مرتدياً ثوب الكرامة، ويضغط زر الخروج من هلوسات مخيلته فوراً.
لا بدّ أنّ عبارة "النصف الملآن" التي تستخدم لمكافحة التشاؤم مأخوذةٌ من ثقافة أجنبية ما، لأنّ هذا النصف يفترض أن يكون المقصود منه مجموعة الإنجازات التي حققها الشخص، أو التي حققتها الأمة أو الدولة، والتي يُطلب من المواطن النظر إليها، لكي تخلق في داخله نوعاً من التوازن الذي يجعله يُخرج مشاعره السلبية التي تسيطر عليه، بسبب نظره إلى النصف الفارغ، الخالي من تلك الإنجازات. لكنّ النصف الملآن في الثقافات الأخرى لا يشبه نصفنا الملآن. وإنّما على العكس تماماً من ذلك، حتى يمكن القول إنّ ما يسبّب لنا الكآبة ويبعث لدينا على التشاؤم هو النصف الملآن تحديداً، لأنّنا حين ننظر إليه نجده مليئاً بالخيبة والحرمان واليأس والهزائم والعنف والقمع، وكلّ ما يسبب المرارة والقهر. ولذلك، يصحّ في ثقافتنا عكس العبارة. وحين تشاهد شخصاً متشائماً، أو شعباً فقد الرغبة في كلّ شيء، عليك أن تقول له: انظر إلى النصف الفارغ، يا أخي، لأنّ نصفنا الملآن في الحقيقة هو نصف آسن، بينما يشكل النصف الفارغ حيز الأمل الأخير الذي يمكن أن يجري فيه التغيير الذي قد يُخرجنا من هذه الحالة. ولذلك علينا دائماً حين تداهمنا السوداوية واليأس والتشاؤم أن ننظر حصراً إلى النصف الفارغ، لا الملآن.