الواقعية السياسية في تونس بعد سنتين من الانقلاب
يقترب موعد 25 يوليو/ تموز الذي مثّل منعرجا سنة 2021 في مسار الحياة السياسية التونسية وتجربتها الديمقراطية. سنتان شهدت فيهما البلاد أحداثا كبيرة، أثّرت، بوضوح، على المشهد الوطني الحزبي والجمعوي الذي بات أشبه بصحراء قاحلة، كما كان لها وقع سيئ على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ناهيك عن التداعيات الحقوقية التي كانت العنوان الأبرز لهذه المرحلة.
استطاع الرئيس قيس سعيّد في هذه الفترة الانتقال، بحكمه التعسّفي من مرحلة الاستثناء التي شابتها خروق دستورية وقانونية جمّة، إلى حكم فردي مطلق، يستند إلى شرعية سياسية جديدة مستمدة من دستور 2022 والذي أفرز بدوره دورة برلمانية انطلقت اشغالها في مارس/ آذار الماضي. هذا الانتقال من الإجراءات الاستثنائية إلى عمل مؤسّسات الدولة بشكل عادي، وإن استند إلى شرعية دستورية، فقد كانت الشرعية الأخلاقية التعاقدية المفقودة سببا في رفض المعارضة النهج السلطوي لسعيّد.
يتساءل بعضهم عن قيمة الأخلاق السياسية أو الفضيلة في حضرة القانون، ولو كان مؤسّسا على الغلبة، وما جدواها في معادلات الانتصار والهزيمة وحروب البقاء، فها هو الرئيس التونسي الذي حنث بقسمه على دستور 2014، واحتكر كل السلطات في ليلةٍ معتمة، وألغى الإرادة الشعبية الممثلة في مجلس نواب الشعب الذي قرّر تجميده ثم حلّه، ها هو يتقدّم عمليا في وجه كل منتقديه، مصطنعا لنفسه مرجعية دستورية وقانونية تخوّل له شرعنة حكمه وأحكامه، وسجن دعاة هذه الأخلاق المتمثلة في احترام القسم الدستوري والمؤسّسات والتعاقد الاجتماعي والحوار بتهم التآمر على أمن الدولة.
يجب أن يكون قوام طريق التغيير كشف الحقائق وتعرية الأجهزة وسياساتها وتفكيك خطاباتها الأخلاقوية لإبراز تناقضاتها وتلاعبها بعقول الجماهير
في مقابل ذلك، هل يمكن قبول واستساغة تسيير شؤون الناس وإدارة الدول بالمنطق الميكافيلي أن الغاية تبرّر الوسيلة، وإذا ما كانت هذه الوسيلة تتنكّر لجميع الفضائل والأخلاقيات، وتدوس على الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية، وكانت هذه الغاية تركّز سطلة استبدادية وتنفي حقّ المختلف في التعبير والرفض والتغيير، ليصل الحد بالغالب إلى إعادة صياغة المعاني والتوصيفات لتبرير أفعاله وسياساته وإضفاء مسحةٍ أخلاقوية عليها لاستدامة مكاسبه ومواقعه، فتصبح الحرية فوضى مثلا ويتحوّل الظلم إلى محاسبة الفاسدين ومحاربة الفساد.
يقول عبد الرحمن الكواكبي في الغرض "الاستبداد يتصرّف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب، ليغدو طالب الحق فاجرا وتارك حقّه مطيعا، والمشتكي المتظلم مفسدا. والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا أمينا. وتصبح تسمية النصح فضولا، والغيرة عداوة والشهامة عتوا والحمية حماقة والرحمة مرضا. وأيضا يغدو النفاق سياسةً والتحايل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة، وأنه، أي الاستبداد، يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح". .. فلا عجب بعد ذلك أن يتحدث بشار الأسد عن السلام وعبد الفتاح السيسي عن الحوار وقيس سعيّد عن محاربة الفساد.
ما الحل في مواجهة هذه الأنظمة؟ .. تعبر مقولة تولستوي "إن الشر لا يقتل الشر كما النار لا تطفئ النار" عن رؤية ومنهج للمقاومة والإصلاح في وجه الأنظمة الفاسدة أو المتسلطة القمعية، حيث يجب أن يكون قوام طريق التغيير كشف الحقائق وتعرية هذه الأجهزة وسياساتها وتفكيك خطاباتها الأخلاقوية لإبراز تناقضاتها وتلاعبها بعقول الجماهير.
الانحياز للفضيلة السياسية يوجب نقد المعارضة والنخب الديمقراطية نفسها بالدرجة الأولى، والاعتراف بأخطائها في السنوات الماضية
الأداة الأولى للتغيير هي التعرية ونشر الوعي بكل الأدوات النضالية السلمية لإيقاظ ضمائر الناس واستنهاظ هممهم لممارسة أدوارهم المواطنية الضرورية وليكونوا شركاء في رسم معالم مستقبلهم ومستقبل أوطانهم. الانحياز للفضيلة السياسية يوجب نقد المعارضة والنخب الديمقراطية نفسها بالدرجة الأولى، والاعتراف بأخطائها في السنوات الماضية، وفسح المجال أمام سلوكٍ وخطابٍ مغايريْن، حسب ما تقتضيه الرهانات الوطنية من برامج وأفكار، وما تفرضه التحدّيات والصعوبات من تجديد وتحديث وتطوير. .. كما تكون هذه الفضيلة وازعا ودافعا للبحث عن سبل للتغيير من المنافذ المحتملة والممكنة تحت قاعدة ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وإلا وجدت نفسها (المعارضة) على الهامش ومعزولة عن فرص الإنقاذ أو الإصلاح، وهو ما يبحث عنه المتحكّم بقانون اللعبة.
تحتّم الواقعية السياسية بعد مرور سنتين على انقلاب 25 يوليو مراجعة المعارضة خياراتها وأدواتها النضالية، رغم ما حققته من مكاسب نسبية في كشف وحشية النظام الجديد وزيف ادّعاءاته في علاقة بالحقوق والحريات، مراجعات حيوية تقوم أساسا على الفصل بين رأس النظام والدولة والسعي إلى عدم مجاراة هذا النظام في عزلهم بخبث، والتأسيس الناعم لمرحلة جديدة يمكن أن تعبّر عنها الانتخابات المزمع عقدها السنة المقبلة.
ماذا لو افترضنا وسلّمنا أن الديمقراطية ليست مطلبا شعبيا في تونس حاليا، ولا تشغل الناس بقدر اهتمامهم بالبحث عن الخبز والزيت والحليب؟ هل يجعلنا ذلك نتخلّى عن هذه القيمة النبيلة والإطار الأخلاقي للتعايش السلمي وإدارة اختلافاتنا وشؤوننا؟
أم نتشبث بهدف نبيل يحقق لنا الرضا النفسي على حساب المعطيات الواقعية الصلبة؟ أم نبحث بدقّة وعُمقٍ عن عناوين أخرى للمرحلة، تجعل الديمقراطية هدفا يتم الاشتغال عليه بهدوء، مع التحلّي بالواقعية السياسية، بما تؤشّر عليه من معطياتٍ وحقائق عملية، أهمها أن أوليات النخب جميعها، سلطة ومعارضة، ليست أولويات الشعب، وأن البلاد تتقدّم غصبا نحو محطّة فاصلة قادمة لا محالة، وهي الانتخابات الرئاسية التي يجب الاستعداد لها، والعمل على المشاركة فيها والتغيير عبرها، كما يمكن أن تكون الورشات والحوارات السابقة لهذه الانتخابات فرصةً لاكتشاف مدى جدّية المعارضة في تمسكها بالديمقراطية واتعاظها من سقطات الماضي.