اليمن ... مليشيا أخرى لرئيس عاجز آخر
تتسيّد الفصائلية كبُنية وهوية الواقع اليمني، بحيث عكست نفسها في أطر وتحيّزات وعقيدة الجماعات الفاعلة على الأرض، وقبلها سلطات الحرب على اختلاف معسكراتها، وربما تمثل التشكيلات المسلحة المنفلتة أحد تمظهرات الحالة الفصائلية في اليمن، من المجاميع المسلّحة التي تتبع أمراء الحرب، وكذلك المقاتلين القبليين المتوزعين بين معسكرات الحرب، إلى التشكيلات المسلحة التي تتبع أطراف الحرب وسلطات الأمر الواقع، بحيث أفضى ذلك إلى إيجاد جيوشٍ مليشياوية تضاعف حجمُها لتشكّل بقوامها وهويتها وولاءاتها وتمويلها مشكلة خطيرة، تتجاوز حالة الحرب إلى المستقبل. ومع أن تشكيل كياناتٍ عسكرية جديدة من المتصارعين وحلفائهم الإقليميين ارتبط بالتماشي مع معطيات الحرب، ولتعضيد مواقعهم في جبهات القتال، فإنه تحوّل، في السنوات الأخيرة، إلى غرض وحيد، تأمين سلطات الحرب في مناطق نفوذها، وكذلك تحقيق توازنٍ في ترويكا سلطة متعدّدة الأقطاب.
في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلن رئيس سلطة المجلس الرئاسي، رشاد محمد العليمي، تشكيل قوات "درع الوطن"، قوة حماية رئاسية خاضعة له، بحيث شكل ذلك تطوّرا سياسيا وعسكريا لافتا في سلطة الوكلاء المحليين. ومع أنها عملياً جزء من "ألوية اليمن السعيد" التي أسّستها السعودية، وتضم المقاتلين السلفيين لمحاربة مقاتلي جماعة الحوثي في جبهات مدينة مأرب، فإن اتخاذ الرئيس العليمي لهذه الخطوة، وفي هذا التوقيت، بعد اعتكافه لأشهر في الرياض، وإن بدا إجراءً اعتيادياً من الرؤساء، إلا أنه يكشف عمق الأزمة في سلطة المجلس الرئاسي وتوترات العلاقة بين الرئيس ونوّابه. كما أن بُنية هذه القوات وهويتها، وكذلك الأهداف من تشكيلها تعكس تحوّلاً في سياسة الرئيس العليمي حيال القوى المنضوية في المجلس. فقد اعتمد الرجل على سياسة التوازن، مقابل الترضية لتحجيم الخلافات البينية التي تعصف بقوى المجلس، وضمان استمراريته بوصفه سلطة توافقية. ومن ثم، فإن تفضيل قوى صاعدة جديدة لحمايته الشخصية، وإنْ كانت خارج سياق الصراع البيني على السلطة في المناطق المحرّرة، فإنه يخلّ بسياسة التوازنات التي بنى عليها سياسة في إدارة المجلس.
ومع أن اتخاذ العليمي هذه الخطوة قد يكون مؤشّراً على حجم التحدّيات التي واجهها أخيرا، فإن ذلك أتى في سياق رغبة حلفائه الإقليميين، لتنظيم أطر سلطة وكلائهم، إلا أن ارتداداتها لا تقتصر على إعاقة توحيد التشكيلات العسكرية والأحزمة الأمنية في مظلة موحدة، والذي شكّل أحد بنود إعلان نقل السلطة من الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى المجلس الرئاسي، برئاسة العليمي، بل الوسائل التي ستلجأ لها القوى المنضوية في المجلس لتأمين نفسها.
يشكّل المجلس الانتقالي الجنوبي ثقلا عسكريا وسياسيا في المجلس الرئاسي، يستمدّه من قوته العسكرية وحضوره في المشهد الجنوبي
شكّل توازن القوة العسكرية البيني، بامتلاك القوى المنضوية في المجلس الرئاسي لأدوات قوة وسلاح ردع، الناظم لعلاقتها ببعضها بعضا، بيد أن ذلك جعل رئيس المجلس الطرف الأضعف في منظومة السلطة، وهو ما أدّى إلى تغوّل هذه القوى وتعطيلها سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب أمر آخر، وهو الأهم، تغوّل سلطة نواب الرئيس، حيث امتلك النواب قوة عسكرية توفّر لهم الحماية وتمكّنهم من فرض شروطهم، إلى جانب التشكيلات العسكرية والأمنية التي تتبع القوى التي يمثلونها في المناطق المحرّرة، فيما بدا رئيس المجلس منزوع القوة عسكرياً، إذ تتبع قوات الحماية الرئاسية المنوط بها وظيفياً حمايته، الرئيس عبد ربه منصور هادي وتخضع للقوى الداعمة له. ولذلك حاول العليمي تبنّي سياسة تحييد سلطته رئيسا للمجلس وقائدا أعلى للقوات المسلحة، وذلك بتعيين وزير للدفاع، الفريق الركن محسن محمد الداعري، الذي ينحدر من مدينة الضالع، ومن بقايا المؤسّسة الرسمية للجيش، ومن ثم أتى من خارج قوى السلطة التاريخية سياسياً وجغرافياً، كما عكس توجّهه السياسي التوفيقي، بيد أن هذه السياسة لم تؤدّ إلى تغيير الواقع الصراعي بين قوى المجلس وزعاماتها ممثلاً بالنوّاب، بحيث أنتج ذلك أزمات متعاقبة داخل بنية السلطة، ما أدّى إلى تعطيلها، وذلك وفق إدارة القوى المنضوية في المجلس لسلطاتها، وحجم تأثيرها على الأرض.
وفي هذا السياق، يشكّل المجلس الانتقالي الجنوبي ثقلا عسكريا وسياسيا في المجلس الرئاسي، يستمدّه من قوته العسكرية وحضوره في المشهد الجنوبي، بحيث أصبح عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي والنائب في المجلس سلطة متنامية، تمكّن من فرض أنصاره في أطر السلطة ومؤسسات الدولة. ومع أن العليمي عمل وفق رغبة حلفائه الإقليميين بتمكين "الانتقالي" في مناطق الثروات في جنوب اليمن على حساب حزب التجمّع اليمني للإصلاح، فإن ذلك لم يكبح جموح "الانتقالي" الذي سعى إلى تمديد سلطته في جميع مناطق الجنوب، فضلاً عن تحريكه، من وقت إلى آخر، ورقة وادي حضرموت، ومطالبته بطرد قوات المنطقة العسكرية الأولى. ولذلك، يبدو أن فشل العليمي في إدارة علاقته بـ"الانتقالي" من منطلق الترضية وحدها، دفعه إلى ممارسة ضغط آخر بتوجيه السعودية وموافقة الإمارات اللتين أرادتا تحقيق نوع من التوازن في المعادلة الجنوبية، مقابل استمرار المجلس الرئاسي بوصفه سلطة توافقية بين وكلائهما، إلى جانب منح رئيس المجلس أدوات قوةٍ لفرض قراراته. لذا كان خيار العليمي تشكيل قوات حماية رئاسية من القوى السلفية التي تمثل المعادل العسكري للانتقالي، لكونها جنوبية على مستوى الأفراد والقيادة وليست شمالية، فإن ذلك يفوّت الفرصة على "الانتقالي" بالمطالبة بطردها، ولكونها جزءا من "ألوية اليمن السعيد" الموالية للسعودية والمدعومة منها، فهذا يقيد "الانتقالي" من إبداء أي مجازفة حيالها، وذلك لتجنّب إغضاب السعودية، حليف حليفه الإماراتي. ومن ثم فإن تشكيل قوات سلفية يمنح العليمي قوة إسناد لتنفيذ قراراته الرئاسية، إلى جانب توفير الحماية له في مدينة عدن التي تشكّل عسكريا وأمنيا منطقة ثقل الانتقالي. وباعتماد العليمي على قوة سلفية لحمايته، فإنه منحها شرعية سلطته رئيسا للمجلس، وتقريبه لها على القوى المنضوية في المجلس، وبتعدّد الفصائل والألوية العسكرية التي تمثل القوة السلفية من "ألوية العمالقة" المنتشرة في المناطق الجنوبية، بما في ذلك حماية بعض مواقع الثروات، إلى "ألوية اليمن السعيد"، "درع الوطن" حالياً، فهذا يُضاعف من حضورها في جنوب اليمن، ويمنحها شرعيةً أكبر، ومن ثم سلطة إضافية في المجلس الرئاسي. بيد أن هذا التوجّه، وإن كان محاولة من المتدخلين لتعديل اختلال معادلة السلطة في جنوب اليمن، فهذا لا يعني أنه يصبّ في صالح حزب التجمّع اليمني للإصلاح.
تشكيل قوات درع الوطن قوة حماية رئاسية يعني تعطيل لقوات الحماية الرئاسية إلى حد كبير، ومن ثم تحييدها من أي دور مستقبلي يمكّن "الإصلاح" من توظيفه
منذ توليه رئاسة المجلس الرئاسي، اتخذت علاقة العليمي بحزب الإصلاح تحوّلات عديدة، وإن بدا أن تحجيم الرافعة السياسية والعسكرية لسلطة الرئيس هادي هدفاً للعليمي، وقبلها لحلفائه الإقليميين، من تقليص نفوذه في قيادة المؤسسة العسكرية وإدارتها، وتغيير بعض القيادات المحسوبة عليه، إلى إزاحته من سلطة شبوة وتحجيمه جزئيا في حضرموت. غير أن ذلك، وإن غيّر المعادلة إلى حد ما في جنوب اليمن لصالح خصوم "الإصلاح"، فإنه احتفظ بالقوة العسكرية للحزب في مدينة مأرب، الغنية بالنفط والغاز ومدينة تعز التي يسيطر على ألويتها العسكرية. ومع أن مستويات الأزمة بين الطرفين ظلت حاضرة، فإن "الإصلاح" كان يعوّل على تغيير هذه العلاقة تحت دافع حاجة العليمي لقوة عسكرية وسياسية تسنده، إلا أن تفضيله القوة السلفية يعني تصعيدا للسلفية المقاتلة بشكل عام، هي التي تعدّ منافساً عقائدياً وخصماً عسكرياً لـ"الإصلاح". وقد خاض الحزب معها جولات من الصراع في مدينة تعز، إلى جانب أن ذلك يمنحها مشروعية سياسية قد تأتي على حسابه في المستقبل. كما أن تدعيم السلفية المقاتلة من المتدخلين، واستبدال مقاتليهم بجنود الجيش الوطني التابع لحزب الإصلاح في جبهات مأرب، عضّد من مركزهم على حساب ألوية الجيش الوطني الذي بات فساد قيادته ووهمية جنوده يضعفان كفّة الإصلاح.
كما أن تشكيل قوات درع الوطن قوة حماية رئاسية يعني تعطيل لقوات الحماية الرئاسية إلى حد كبير، ومن ثم تحييدها من أي دور مستقبلي يمكّن "الإصلاح" من توظيفه. فمع اختلاف ولاءات قيادته من منطقة إلى أخرى، فإنها شكلت رافداً لسياسة الإصلاح، حيث خاضت بعض ألويتها معارك ضد قوات "الانتقالي" في جنوب اليمن، والأهم أن تشكيل قوات درع الوطن يعني حرمان "الإصلاح" من وظيفته التاريخية حاميا لرأس السلطة. في المقابل، ورغم انتمائه سياسياً لحزب المؤتمر الشعبي، فإن حالة التنافسية التي تميّز أجنحته، بما في ذلك تفوّق سلطة العميد طارق محمد عبدالله صالح، النائب في المجلس الرئاسي، على سلطة الرئيس، بما في ذلك امتلاكه قوة عسكرية ممثلة بـ"حرّاس الجمهورية"، دفع العليمي إلى تفضيل القوة السلفية على "المؤتمر"، لعدم تسييسها، ولكونها قوة توازن تعضُد من سلطته، إلى جانب ضمان تعدّد القوى الموالية له، مقابل عدم انفراد طرفٍ بامتيازات حماية الرئيس.
رئيس سلطة المجلس الرئاسي يكرّس عملية "الملشنة"، بتغليب قوى غير نظامية وعقائدية وزجّها في منظومة عسكرية مشتّتة الولاءات
من "الجيش الوطني" إلى "حرّاس الجمهورية" وقوات "درع الوطن"، تحضر التسميات الطنّانة والتشكيلات العسكرية، فيما يغيب الوطن كانتماء وولاء في مشهد الفوضى، ليس فقط بالنسبة للكيانات المليشياوية، وإنما أيضاً لسلطات الحرب التي تعمل على تعزيز التجييش والفصائلية. ففي حين تستمرّ جماعة الحوثي في تقويض ما تبقى من بنية المؤسّسة العسكرية والأمنية في المناطق الخاضعة لها، حيث أحالت، أخيرا، أكثر من ثلاثين ألف رجل أمن إلى التقاعد القسري، واستبدلتهم بأنصارها، ما يعني تجذير الهوية المذهبية في المنظومة الأمنية، فإن رئيس سلطة المجلس الرئاسي يكرّس عملية "الملشنة"، بتغليب قوى غير نظامية وعقائدية وزجّها في منظومة عسكرية مشتّتة الولاءات، من ثم منحها مشروعية.
وكون العليمي أحد المنتسبين للمؤسّسة الرسمية، فإنّ هذا يضاعف من فداحة خطوته، كما أن تشكيل قوة عسكرية خاضعة له سيعيق توحيد القوى العسكرية والألوية التي تتبع القوى المنضوية في المجلس الرئاسي تحت سلطة موحّدة، كما قد يضاعف من تربّصها ببعضها بعضا، وبرئيس بدأ يغيّر شروط اللعب، بحيث قد تتشبث بقواتها لتأمين سلطتها داخل المجلس وخارجه، إلى جانب تحريك أوراق أخرى للضغط عليه، بحيث قد يجد نفسَه مستقبلاً في مواجهةٍ غير متكافئة، إضافة إلى أن اعتماده على القوة السلفية لحمايته من حلفاء خارج سيطرته، وإن بدا منطقياً، فإن ولاءها في المقام الأول للمتدخّلين.
وفي الأخير، أثبت تأسيس قوة عسكرية لحماية رأس سلطة فشلها في تجارب قريبة. ومن ثم لا يمكن التعويل عليها لبناء الثقة أو تحقيق توازن سياسي مع حلفاء متربّصين، بما في ذلك تأمين سلطة فاقدة لشرطها الوطني وثقة مواطنيها، عدا تعويلها على دعم رعاتها الذي لن يدوم إلى الأبد.