اليوم الأول في المدرسة
جزعتُ من النأي. اعتاد الإعلام وصف تلك السن بعمر الورود، ولا يحيد عن هذا الوصف. نأيتُ كثيرًا عن الدار وأهلها، فلطالما غَيَّرَ النَأيُ المُحِبّين. كانت هجرة، أو رحلة تشبه الأوديسة. خشيتُ أن أفقد طريق العودة، ولم تكن المدرسة بعيدة، بل هي على رمية مقلاع. وأذكر أنَّ رجلًا أخذ ابنه بيمينه وأخذني بشمالٍه إلى تلك المدرسة الحجرية، مقابل دار الحكومة، وكان اسمُها القائمقامية، (هكذا كان اسمُها يكتب متصلاً)، ثم تغيّرت الأسماء، ظنًا من الذين بدلّوها أنهم يُحسنون صنعا، وكانت الأسماء القديمة أكرم من الجديدة. كان الرجل يتوقّف بنا، ليسلّم على أصحابه، ثم يتّخذ طريقه في الزحمة عجباً.
كانت المدرسة ملاصقة للمخفر أيضًا، بسجنه وموقوفيه، وإسطبل خيوله، وهي تشبهه تمامًا، فبابها أسود حديديٌّ، وبوّابها أعرج، يرتدي زيًا عسكريًا، وله وشومٌ على خدّيه وأنفه، ويتهدّل من خصره مسدسٌ عند الإقعاء. دخلتُ المدرسة بعد أن التقط لي مصوّر صورةً شمسيةً بكاميرا منصوبة على ثلاث قوائم في الشارع، مخمّرة بعباءة سوداء. كانت صورتي لوجهٍ مذعور خرج من المقبرة ليلًا. خشيتُ أن أخرَّ مغشيًا عليَّ من الجزع، وأنا أرى التلاميذ يضحكون ويجرون في هرج ومرج، ورأيت معلمين غاضبين يحملون عصيًا، تقدَح عيونهم شررًا ووعيدًا. عرقت يداي كثيراً من زبد الخوف. سأل الرجل الذي اصطحبني معلّمًا مسلّحًا بعصا قصيرة، كان يزجُر التلاميذ ويتوعّدهم بها، سأله عن الصفّ الأول، فدلّه، فأخذني مع ابنه إلى الغرفة الأخيرة في سلسلة الغرف المتماثلة المترادفة. أطلقَنا الرجل ومضى إلى سبيله، فخشيتُ أن أغرق في التيه، وبقيت في مكاني واجمًا صامتًا. سدّ التلاميذ الباب من غير أن يجاوزوا عتبته، وهم يضحكون. مدَّ تلميذٌ يده إليّ وشدّني. كنت دائخًا، خائفًا من نسيان طريق العودة إلى البيت، مسح التلميذ الضخم على رأسي مطمِئنا، وكأنه يقول لي: الحبس للرجال. ثم دخل علينا معلّم يضع نظارة سوداء. أمرنا أن نتكتّف! ورأيتُ زملائي يعانقون أنفسهم بأذرعهم أسرى بقيود أيديهم. كنّا بعيدين عن أهلنا، نفتقدهم ونفتقد أنفسنا. تكتّفوا، تكتّفوا، تكتّفوا!
رنَّ الجرس، فأسرع المعلم بالخروج أولاً، وخرج الأولاد في إثره مسرورين بعتق أعناقهم إلى حين. كان بعضُهم قد اصطحب معه لفائفَ من الخبز. خرجتُ متأخّرًا، خائفًا من الغرق في اللجّة الصاخبة. رأيتُ المعلمين يلعبون بالكرة الطائرة مع آنسات قوارير، وقد غلبوهنَّ، وأحسب أني أشفقتُ عليهن. تجاسرتُ وخطوتُ مبتعدًا عن الصف، بعد أن حفظت طريق عودتي إليه. خرجتُ تحت أشعة الشمس النحاسية، محتميًا بجدار المدرسة، فقطعتُ باحتها حُقبًا، وكانت مساحتها أكبر من ملعب كرة الطائرة بقليل، وبلغت مغرب الشمس، أبحث عن عين الحياة التي بحث عنها الخَضِر، ورأيت عينًا غير حمئة عليها شبكٌ حديديّ، تطلُّ على إسطبل خيول المخفر، فاستطبتُ ريح روْث الخيول الوديعة، المعطر بشذا الأعشاب والقش المعتّق. عدّتُ مع رنّة الجرس. رأيت التلاميذ وهم يهرعون إلى صفوفهم، فحذوتُ حذوَهم، وتكتّفنا، وكدتُ أختنق من عناق بعضي لبعضي، ونفدت المدّة ثانية، فرنَّ جرس الإياب. وقفتُ حائرًا، فرأتني معلمةٌ ونظرت في عيني، وجزمت قائلة: أنت يتيم؛ فتعجّبت من فراستها. رآني التلميذ الذي شدّني ومسح على رأسي مثل الكبار، فقلت له باكيًا: أضعتُ طريق العودة، فسألني عن داري، فوصفتها له، فقادني من يدي، ولمّا بلغناها، فوجئت بأنَّ أخي الصغير قد مات، وبأهلي وهم يبكونه، لكنني كنت مسرورًا بالعودة. كان أخي في "عمر الورد"، ففقدَت أمي عقلها إثر موته، وقيّدناها بالسلاسل. لم تكن لتصدّق موته. كانت تظنُّ أنّهم دفنوه حيًا، ثم صارت تقصد قبره كل يوم، وتنبشه، وكنت أراها من وراء قضبان باب المدرسة مسندةً قدّومها على كتفها. عرفت متأخّرًا أنَّ وصف أعمارنا بعمر الشوك أولى من وصفهم لها بعمر الورد، فالشوك أطول عمرًا من الورد، وأصلب، وأقوى منه بكثير. بقيت أوقّر ذلك التلميذ الذي أغاثني ومسح على رأسي وأجلّه، فيعجب من توقيري له على مرِّ الأيام، فيسألني عن السبب، فتفيضُ عيناي دمعا، فيزداد عجبًا. وكنت أظنُّ أني خذلتُ أخي، وأنني سبب موته، فأقول له: صنائع المعروف...
جفّت ثيابي بعد حقبة، أما عيناي فلا تزالان مبتلتين حتى هذه اللحظة!