انتبه: السودان يرجع إلى الخلف
مرّة أخرى، يعود السودان إلى مربّع المواجهة الدولية. بعد 26 عاماً من العقوبات الاقتصادية والتجارية، خرجت البلاد منهكةً من حكم الرئيس السابق عمر البشير. يقدّر بعضهم خسارات السودان جرّاء العقوبات بـ350 مليار دولار. عقوبات بدأت منذ العام 1997، واستمرت حتى سقوط نظام البشير، وتسوية حكومة عبدالله حمدوك مع الحكومة الأميركية. بدأت الأزمة في 1993 عندما صنفت الولايات المتحدة السودان ضمن الدول الراعية للارهاب. ورغم التحوّل الأميركي في شأن التعاون مع الخرطوم في ملف الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر (2001)، إلا أن مسائل الحرب في دارفور وملف حقوق الإنسان مدّدت العقوبات فترة.
قبل أن تستفيد البلاد من رفع العقوبات، وقبل أن تثمر عودة الخرطوم إلى المجتمع الدولي، وقع انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ليعلّق عمليات اقتصادية عديدة. وبسبب العُنف المفرط الذي مارسته قوات الاحتياط المركزي التابعة للشرطة السودانية، أدرجتها الولايات المتحدة على قائمة العقوبات في مارس/ آذار 2022. لم يكد يمرّ عام على هذه العقوبات حتى اندلعت حرب الخرطوم، وقاد تشدّد طرفي النزاع الولايات المتحدة لإعلان عقوبات اقتصادية جديدة على أربع شركات تعتبرها مموّلة للصراع.
هذه أجواء عرفها السودان عقودا طويلة. أجواء الصدام مع المجتمع الدولي، والانتصار في معارك الخطب المحلية، مقابل مقاطعة دولية لبلادٍ تتماسك بمعجزة وتوشك على الانهيار.
كان نظام البشير كسائر الأنظمة القمعية، يرى مصدر شرعيته، وربما قوته، في عداء المجتمع الدولي له. كان يعرّف نفسه بموقف الآخرين منه. واعتبرت الحركة الإسلامية الحاكمة صمودها في السلطة عقودا ثلاثة دليل قوّة، إذ لم تهدّها العقوبات الدولية حسب ما تظن. وهذه نظرة قصيرة تتجاهل الأثر الطويل للعقوبات.
تهدد حرب الخرطوم البلاد المهدّدة بالتفكّك بجولة جديدة من العقوبات والحصار الدولي. وفي سياق الضغط على طرفي الأزمة، هدّدت الأمم المتحدة بأن المنتصر في الحرب سيجد نفسه في عزلة دولية. لكن ذلك لم يبد مقلقاً للجيش السوداني ولا لقوات الدعم السريع، فتواصلت المعارك بينهما. بينما صعّد الجيش من صراعه مع المجتمع الدولي، فاتهم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس بتحريض قائد الدعم السريع على المواجهة المسلحة مع الجيش. وتمادى المستشار الاعلامي السابق للفريق أول عبد الفتاح البرهان، فاتهم رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية (يونيتامس) بأنه "خطّط مع آخرين لانقلاب تقوم به قوات الدعم السريع". ولم تقف قائمة الاتهامات عند الأمم المتحدة فحسب، بل طاولت دولاً عديدة، في العالم والمنطقة، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والإمارات. ومثل خطاب السلطة السودانية في التسعينيات، عادت المؤسّسات الدولية، حتى تلك التي تعمل في المجالات الإنسانية مثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لتصبح عدوة للبلاد في خطاب السلطة الحالية.
يزداد الخطاب المعادي للعالم الذي يحتفي بفكرة "الجميع ضدّنا"، ليطغى على المشهد السياسي السوداني. ومثل أيامها تحت حكم عمر البشير، تخوض الخرطوم مرة أخرى حربها ضد المؤسّسات الدولية. ومرّة أخرى تعود العقوبات لتحيط بالخرطوم.
العقوبات، مرّة أخرى كما حدث من قبل، قد لا يكون لها أثر سريع مباشر، خصوصا على الجيش السوداني. يمكن أن تؤذي العقوبات الدعم السريع الذي يفتقر إلى موارد الدولة التي يحوزُها الجيش لتمويل عملياته. لكنها على المدى الطويل مؤذيةٌ للبلاد، وللطرف المنتصر. ربما كان مردودها السريع تخويف الطرفين المتحاربين، وإشعارهما أن لاستمرار الحرب عواقب عليهما. هذا مردود دبلوماسي. لكن إن لم تتوقف الحرب، فان مزيداً من العقوبات المؤذية للبلاد ستعود. وهذا ينذر بالخطر في بلاد على حافّة المجاعة.
الأثر السلبي للعقوبات على السودان طوال 26 عاماً لم يكن بأثر هيّن يمكن علاجه في سنوات قليلة. والوقوع تحت العقوبات مرّة أخرى قبل التعافي من أثر السابقات مقلق. ولكن الخرطوم لا تبدو قلقة من ذلك، فقد انتشت بالعودة إلى حقبة التسعينيات. عندما كانت البلاد ترفع شعار التهديد "أمريكا، روسيا، قد دنا عذابها".