انتفاضة المعنى ومعنى الانتفاضة
الأحداث التي تدور في مدينة نابلس بالضفة الغربية تضعنا أمام الأسئلة الضرورية، التي تتهرّب منها جميع الأطراف بوسائل مختلفة، والسؤال الأول هنا: ما معنى منظمة التحرير الفلسطينية بعد 18 عامًا على رحيل ياسر عرفات، وصعود محمود عباس لقيادتها؟
هذا السؤال يتحرّك في العقول والأفئدة بالقوة ذاتها التي كانت تتحرّك بها قوات الشرطة الفلسطينية، التابعة لسلطة رام الله، للقبض على المقاوم الفلسطيني المطلوب لقوات الاحتلال الصهيوني مصعب اشتيه، ورفيقه عميد طبلية، حال وجودهما في نابلس، إذ كيف تتحوّل سلطةٌ من المفترض أنها وطنية، وأنها تقود مشروع التحرّر الفلسطيني، إلى أداة أمنية، تشتغل بجد وإخلاص، لمصلحة المحتل؟
وكيف يمكن أن يوصف رئيس هذه السلطة، والذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بأنه قائد مشروع وطني، بينما هو يتعيّش على أرباح التنسيق الأمني مع المحتل، وهو المصطلح المهذّب لوظيفة يمارسها هذا "الرئيس"، تقوم على خدمة الاحتلال والتعاون معه، وفي الوقت نفسه، القطيعة مع المقاومة، فكرًة ومشروعًا وممارسًة، إلى الحد الذي جعله يصف الشقّ المسلح منها ذات يوم بأنه "حكي فاضي"؟.
ومن هذا السؤال الرئيس تتفرّع أسئلة أخرى عن مفهوم الوطن، سواء كان محرّرًا أم واقعًا تحت الحصار، وفكرة التحرّر ومعنى الحصار، ومن ذلك: هل فعلًا يمكن اعتبار الضفة الغربية منطقة فلسطينية محرّرة؟ وهل هي كذلك أسعد حالًا من غزة التي تعيش تحت الحصار طوال الوقت؟
الشاهد أنّ من أبجديات الوطن المحرّر أن يكون محكومًا بسلطةٍ حرّة، ومحرّرة من الخضوع والإذعان الكاملين لطلبات ورغبات العدو الذي يحرص على وجودها واستمرارها في الحكم أكثر من حرص الفلسطينيين أنفسهم، ويستعمل كلّ أدواته السياسية والأمنية والاقتصادية في الأنظمة العربية المتحالفة معه لتعويم هذه السلطة كلما ارتفع الموج وهدّدها بالغرق.
كما أنّ من اشتراطات هذا التحرّر ألا يصاب رئيس هذه السلطة بالغم والنكد كلما عبست سلطات الاحتلال في وجهه وأدارت له ظهرها ولم ترد على اتصالاته، من باب العقاب والتأديب والتهذيب والإصلاح .. وأن تكون هذه المساحة المحرّرة مرتكزًا للحركة في اتجاه تحرير الوطن كله، ودعم مقاومته وصموده أمام الابتلاع والضياع.
أما إذا كان الواقع الفعلي يقول عكس ذلك كله، فإنه يصبح من العبث التعاطي مع هذه السلطة "الوطنية" على أنها مؤهّلة لحمل أحلام وتطلعات شعب محتل يسعى للتحرّر واستعادة وطنه المغتصب، ولعل هذا ما دفع مدن الضفة الغربية للانتفاض على مدار الأيام الماضية، ودخولها في مواجهةٍ مع قوات شرطة محمود عباس، أسفرت عن شهيد وعدد كبير من الجرحى، وصنعت عناوين ومضامين حقيقية للحالة الفلسطينية في الضفة الغربية، كاشفة عن أنّ الشعب كفر بالمنطق الذي تحكم به سلطة التنسيق الأمني منذ سنوات، وضجّ بكل هذه "الميوعة" في الإدارة والسيولة في المفاهيم، والعبثية في التطبيق، والتي يجسدها هذا التشبّث الشديد بدفء العلاقة مع العدو المحتل، في مقابل التنكّر لمشروع المقاومة الوطنية، بل ومعاداته في بعض الأحيان.
حركة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أشعلت الضوء الأحمر عند الاحتلال، وحلفائه وأصدقائه من حكام عرب مشاركين في حصار غزة المقاومة، إذ بدا الأمر مؤهلًا للتصاعد والتطور وصولًا إلى انتفاضة شاملة تسعى إلى تحرير رام الله من "قيد وطني ثقيل" يمثله شخص قال ذات يوم "نحن لا نسعى ولن نعمل على إغراق إسرائيل بالملايين .. هذا هُراء .. نحن نعمل من أجل مُستقبل شباب إسرائيل". هذا الشخص يقود سلطةً قال عنها رئيس الدائرة الأمنيّة/ السياسيّة في وزارة الحرب الإسرائيليّة، الجنرال المُتقاعد عاموس جلعاد إن "السلطة الفلسطينية هي جزءٌ من المنظومة الأمنية الإسرائيلية"، وأن التعاون بين السلطة وإسرائيل على مدار السنوات الماضية كنز استراتيجي، لما تقدّمه هذه السلطة من خدمات لإسرائيل، تحتم على الأخيرة على العمل على منع انهيارها اقتصاديًا.
والحال كذلك، وقد هدأت الأمور مؤقتًا، فإن الحكاية في نابلس والخليل ومدن وبلدات الضفة هي حكاية شعب قرّر التحرّر من أوهام أوسلو، وكوابيس عباس، واستعادة المعاني والمفاهيم الصحيحة للوطن وللتحرّر، قد تكون إسرائيل وأدواتها العربية نجحت في احتوائها هذه المرة، لكن المؤكد أنّ ثمّة انتفاضة مفاهيم قد بدأت.