بايدن والحذر الفلسطيني المطلوب
طبيعيٌّ أن يرتاح الفلسطينيون لمغادرة أسوأ رئيس أميركي، البيت الأبيض، فقد تطرّف ترامب وإدارته في معاداتهما الشعب الفلسطيني. وطبيعيٌّ أن تستقبل السلطة الفلسطينية بمقادير من التفاؤل وعود الرئيس الجديد، جو بايدن، بإعادة مساعداتٍ مالية، كان قد أوقفها سيئ الذكر، لبرامج خاصة باللاجئين ولمؤسسات فلسطينية. وطبيعيٌّ أن تلاقي النخب الفلسطينية رمي بايدن صفقة ترامب نتنياهو إيّاها، بالتقدير، سيما وأن الرجل أعلن في برنامج له، في أغسطس/ آب الماضي، التزامه "حل الدولتين"، ومعارضته أي خطواتٍ أحاديةٍ من أي جانبٍ تقوّض هذا الحل، وكذلك مخالفته التوسع الإستيطاني وضمّ إسرائيل أراضي فلسطينية. وسيما أيضا أنه أعلن نيته إعادة المساهمة المالية الأميركية لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن. وهذا كله يعني أن بايدن سيلغي قراراتٍ لترامب استهدفت الشعب الفلسطيني. وإذ كانت رئاسة السلطة الفلسطينية قد بادرت إلى قطع جميع أشكال العلاقات والتواصل مع الإدارة الأميركية غير المأسوف عليها، منذ أكثر من عامين، فإن مسارعة الرئيس محمود عباس (85 عاما) إلى إرسال برقية تهنئةٍ إلى بايدن (وأخرى إلى نائبته كامالا هاريس)، بادرةٌ باتجاه إيجابي لاستعادة العلاقات الرسمية الأميركية الفلسطينية، إذا ما عملت الإدارة المرتقبة في واشنطن على هذا الأمر.
لا حاجة لتعريف الرئيس عباس وفريقه بأن التحالف المتين بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا يهتزّ أبدا، وبأي مقدار، بتغير ساكن البيت الأبيض، ولا بتحوّل الإدارة الأميركية من جمهورية إلى ديمقراطية أو العكس، فهذا من البديهيات الذائعة. ولا مدعاة لتذكير أحد في السلطة الفلسطينية بأن جو بايدن ظل، منذ صار عضوا في الكونغرس، في 1973، من أهم الداعمين في الحزب الديمقراطي لإسرائيل، وقد جهر بصهيونيته، وبالتزامه المطلق بأمن إسرائيل وتفوقها العسكري. وهو الذي عمل بجهد مشهود، لمّا كان نائبا للرئيس أوباما، على تقديم هدية ثمينة لإسرائيل، رفع الدعم العسكري لها إلى 38 مليار دولار، على مدار عشر سنوات (كانت 30 مليارا).
أما وقد شاع، في الأسابيع القليلة الماضية، إن من أسباب التباطؤ الذي وصل إلى منزلة التجميد في مسار تنزيل مقرّرات تفاهمات اجتماعات إسطنبول بين حركتي حماس وفتح لإنجاز المصالحة الفلسطينية العتيدة، انتظار حسم انتخابات الرئاسة الأميركية، فذلك هو ما يجدر الحديث عنه وبشأنه، وتذكير الرئيس عباس وفريقه بأكثر من نقطة نظام واجبة في هذا الخصوص. والمأمول أن يكون هذا الذي تردد وانكتب وتم التلميح إليه في غير مناسبة مجرد شائعة، لا صحّة فيها، وإلا فإنه حماقة سياسية فادحة، مرذولة. ولكن الذي يحدث في ملف المصالحة، بعد حزمة تفاؤل واسعة بتنفيذ استحقاقاتها في المشهد السياسي العام، يجعل واحدنا يتحسب مما إذا كان أمر فوز بايدن أو ترامب برئاسة أميركا كان في خلفية التعثر الذي نرى.
وإلى هذا، لا بأس من استقبال يدٍ ممدودةٍ من إدارة بايدن بيد فلسطينية تجاهها، غير أن هذا لا يفترض أبدا الاتكال على هذا الرئيس الأميركي، والبقاء في منطقة انتظار مبادرة السلام التي قد يعمل على إنجازها (كل الرؤساء الأميركيين تقريبا طرحوا مبادرات تسويات شرق أوسطية منذ مبادرة روجرز في عهد نيكسون في 1970). ولا يجدر أن تعني تلك اليد التسليم مسبقا بأن وعود المرشّح بايدن ستكون قيد التنفيذ على وجه السرعة، فلن يكون مفاجئا، ولا ينبغي أن يكون مستغربا، أن تربط إدارة الرئيس الديمقراطي كل خطوة من وعوده تلك بمطالب يتم الإلحاح على الجانب الفلسطيني لتنفيذها. ومن المرجّح أن طرح هذه المطالب سيكون مرفقا بضغوط ظاهرة، للعودة إلى مفاوضات مع المحتل الإسرائيلي، لا سقوف زمنية لها ولا مرجعيات قانونية تؤطّرها، لتصير طبخا جديدا في الحصى من الصنف المجرّب إياه، معطوفا على مدائح للرئيس بايدن، لشجاعته في إلزام إسرائيل على الجلوس على طاولة المفاوضات. من دون أن يتمكّن فخامته من وقف أي مشروع بناء استيطاني جديد، ذلك أن مواقفه المعلنة لفظية، ويتم الاكتفاء بترديدها، من دون إلزام إسرائيل بشيءٍ في صددها، ولا بربط أي مساعداتٍ أو طلبات لها بوقف توسع استيطاني في القدس وغيرها. وفي البال أن الرئيس أوباما جهر، في الأسابيع الأولى لرئاسته، في العام 2010، بمواقف متقدّمة في هذا الشأن، ثم نزل عن الشجرة وحده، بعد أن عرف حدود حركته، وأيقن أن عليه أن يتجنب خوض معركة لا طائل منها.
.. أسوأ ما يمكن أن تقدّمه الرئاسة الفلسطينية للرئيس بايدن التلهف عليه، من دون حذر منه، جدّي ومطلوب وملحّ.