بدعة الترجمة من العربية إلى العربية
بحثتُ عن جوهرة حديث بشّار الأسد مع قناة "أخبار السماء"، هل هي في وصفه المعارضة الوطنية بالمصنّعة، أم في جرأته في وصف علاقات العرب "بالشكلية"، أم هي في المقدار نيّف؟ وقد وجدتها في خطاب زميله عبد الفتاح السيسي. وسأذكرها بعد كلمة موجزة عن تاريخ الترجمة السينمائية البصرية. لا تنسَ، عزيزي القارئ، أنَّ "مصر أغاني جلّق".
كان أول ظهور للترجمة من العربية إلى العربية، في برامج الكوميديا الساخرة، غمزًا بالمترجَمة أقوالُهم عن جنب، ولمزًا من عُجمة الخطباء العرب، فهم غزاةٌ فرنجة يحتاجون الترجمة. وربما تُفصّح الترجمة بعض ألفاظهم الضامرة، أو تبلّغها لذوي الأبصار والنُهى، تأكيدًا عليها وتشديدًا، بإشراك حاسّة البصر مع حاسّة السمع في الوليمة، أو تسخر الترجمة من أقوال القائل، فتنكّل بها تحريرًا أو تحبيرًا، فتطيلُ بعض الحروف كما في فنِّ الكوميكس، أو تمثِّل بها تمثيلًا. ما لبثت الترجمة أن شاعت في برامج "يوتيوب" وهي ضربان فنيٌ ساخر وآلي رقمي دبّجته أقلام الذكاء الصناعي الحمقاء.
وجدت أهوالًا في ترجمات الذكاء الصناعي، فأذنُ الذكاء الصناعي غير عاشقة بعض بنات الحيّ، ولا لبنات "الميت"، وفيها أخطاءُ لا تقارَن بأخطاء معامل شركة أنيس عبيد للترجمة، التي كانت تقع في بعض الأخطاء النحوية. بدأت الشركة المذكورة ترجمة فيلم "روميو وجولييت" في سنة 1944، ووجد صاحبُها ابن جيل الزمن الجميل حلًّا للشتائم في الأفلام الأميركية، وهي بذيئة، فهذّبها وعذّبها للعرب، وأيّ الرجال المهذب، فتحوّلت الشتائم السوقيّة الأميركية الشائعة في الأفلام إلى ألفاظ أشبه بالغزل والنسيب، مثل؛ "سحقًا"، و"تبًا لك" و"اللعنة". أمّا "اذهب إلى الجحيم"، فهي ترجمة وفيّة للأصل وفاء السموأل، بل إنَّ "معامل" أنيس عبيد حرصت على تحذيرنا من صدماتٍ روائيةٍ على طريق مصائر أبطالها، بلوحاتٍ تحذيرية، وإن أفسدت متعة التشويق، مثل عبارة "فيلم رائع لكن البطل سيموت في النهاية"، فشدّوا الحزام، أيها المشاهدون، واشتدّي زيَم.
ثم ظهرت مع شيوع "يوتيوب" وبرامج التوك شو والتيك توك صور الإموجي، وفشت الترجمة من العربية إلى العربية الآلية التي باتت ضرورةً لا تُعرف أسبابها، وبرهان الضرورة واضح في قمّة السيسي مع ماكرون التي يستحقّ فيها المترجم المسكين الشفقة، فكيف سيُترجم بلاغة السيسي لماكرون، وهو يقول: "أنتم فقط لا ترون فقط بعيونكم الأوروبية، نحن لا نراكم بعيوننا المصرية، نحن نراكم بعيوننا الأوروبية، أنتم مطالبين بأن ترونا بعيونكم المصرية مش بعيون أوروبية، حتظلمونا". أظنُّ أنَّ عبارته تحتاج إلى فريق من الضفادع البشرية لفصل الماء عن الملح في دموع العيْن، عيوننا المصرية طبعًا، وقد عرفتُ حلّ حزورته وهي: بطيخة.
قارنْ فصاحة سائق التكتك ببطيخة السيسي، وكان قد ذكر للمذيع أنه متخرّج من جامعة بعد سؤال عن ثقافته الرفيعة، وناظرْ طلاقة السائق بعيّ السيسي الذي لا ينطق جملة إلا بعد استراحتيْن؛ استراحة لتكرار الجملة حتى نعي محتواها الفلسفي العميق، واستراحة يتكئ فيها على رتبةٍ عسكريةٍ أو رسميةٍ أدنى من رتبته، ملقيًا في روعنا أنَّ لديه جندًا وحديدًا، في مشهدٍ أدّى إسماعيل ياسين أمثاله في أفلامه.
سُعدتُ حقًا بظهور الشريط الإخباري في عصر السرعة، ثم ظهر التنبيه الصوتي للأخبار العاجلة، وهو غير التنبيه البصري باللون الأحمر، ولا زلتُ آمل من قنوات عالمية، مثل الجزيرة، أن تتفضّل بخدمة القارئ، فتُثبت اسم الضيف في برامج معروفة مثل برنامج "المقابلة" الذي لا يتيح للمشاهد معرفة اسم الضيف إلا في نهاية الشوط. وقد تظهر قريبًا ترجماتٌ بالأشعة السينية، تترجم عظام الخطبة ودماء المعنى في شرايين الكلمات، وقد رأيت بعض هذه البرامج الساخرة من مقابلة "أخبار السماء"، واستمتعت بترجماتها، فالمنكوبون يحتاجون العزاء والسلوان.
لم أرَ حتى الآن جواهر ودُررًا في ترجمات البرامج ساخرة من مقابلة "أخبار السماء" مع بشّار السماوي، تضاهي كرامات ترجمات معامل أنيس عبيد وكياستها، فقد غاب عمّا شاهدت لطائف وقطائف مثل: سحقاً، تبّاً لك، اذهب إلى الجحيم. وسقط منها التحذير السينمائي الشهير للجمهور الذي يرى فيلمًا أجنبيًا: البطل سيفطس في النهاية.