بطولات أبو الخير نجيب
كاتب هذه الأسطر مدين بالشكر للروائي المصري علاء الأسواني، لأنّه قدّم، ضمن واحدة من ندواته الأسبوعية، نبذةً عن الصحافي المخضرم أبو الخير نجيب (1913- 1983)، فنحن السوريين المهتمين بالشأن المصري عرفنا، خلال نصف قرن، مجموعةً لا بأس بها من الأسماء اللامعة (أو المُلَمَّعَة) في الصحافة المصرية، وبعضهم أقل شأناً من أبو الخير، ابتداء بمحمد حسنين هيكل، مروراً بصلاح عيسى، ومحمود السعدني، وإبراهيم عيسى، وصولاً إلى مصطفى بكري وعمرو أديب، ومع ذلك لم نسمع بهذا الصحافي المهم.
تنطبق على أبو الخير، في الحقيقة، المعايير العالمية للصحافي الحر، المخلص لعمله، وبلده، وشعبه، وقرّائه.. فحينما كان يعمل في صحيفة الأهرام، سنة 1946، ذهب لمقابلة رئيس الوزراء المستبد، الملقب بـ"جلاد الشعب" إسماعيل باشا صدقي، بناء على موعد مسبق، ولكن رئيس المكتب أخبره أن الباشا مشغول، ورجاه أن ينتظر، فانتظر، بصبر نافد، خمساً وأربعين دقيقة، وقف بعدها وقال لرئيس المكتب إنه لم يأت إلى هنا ليتوسّل الباشا، أو ينافقه، أو يتكسّب من ورائه، وإن واجبه يحتم عليه احترام الصحافة والصحافيين والشعب المصري.. ثم غادر إلى الصحيفة، وتقدّم باستقالته احتجاجاً على ما اعتبره إهانة له، وللصحافة المصرية، ولمؤسسة الأهرام. وكان رئيس التحرير يومذاك مصريا من أصل لبناني، اسمه أنطون الجميل باشا (1887- 1948). اجتمع مع مجلس الإدارة، وقرّروا "معاقبة" رئيس الوزراء بعدم ذكر اسمه، أو نشر صورته في أي خبر، حتى ولو كان هو صانع الخبر، فكانت الصحيفة تكتب، مثلاً، افتُتح في المدينة الفلانية مصنع للنسيج، حضر الافتتاح المسؤولون فلان وعلان وزيد وعمرو، من دون ذكر رئيس الوزارة. وتنشر الصحيفة خبراً آخر، أن سفير الدولة الفلانية زار مصر، واستقبله مسؤول مصري رفيع المستوى، مع أن الصحف الأخرى تتحدّث عن زيارة السفير رئيس الوزراء .. وبقيت الأمور كذلك حتى حضر إسماعيل صدقي، الديكتاتور، شخصياً إلى مؤسسة الأهرام، واعتذر لأبو الخير وأنطون الجميل عن فعلته.
بعد سنتين؛ استغل أبو الخير حادثة عزل ملك رومانيا، ميكايل الأول، فكتب مقالة "التيجان الهاوية"، وفيها أن كل ملك لا يعرف حدود نفسه، ويقحم نفسه بغير اختصاصه، يفقد الحصانة، ويهوي، ويصبح رجلاً عادياً. ولم يكن نشرها ممكناً إلا بالحيلة، إذ قدّم للصحيفة مقالة عادية، استبدلها في آخر النهار بالمقالة المذكورة.. فاكتسب أبو الخير، منذئذ لقب "الصحفي المحتال"، واعتقل بأمر من الملك فاروق، وأحيل إلى القضاء الذي برّأه، وكانت حجّة القاضي أن المقالة عن الملوك بشكل عام، وملك رومانيا المعزول بشكل خاص، ولا ذكر فيها للملك فاروق أبداً. وعندما استمر اعتقاله، بناء على إصرار جماعة "مولانا" الملك، علم رئيس الوزراء محمود النقراشي باشا (1888- 1948) بالأمر، فقال عبارته: وهل القضاء المصري بتاع مولانا؟ واتصل برئيس الديوان الملكي إبراهيم عبد الهادي وقال له: قل لمولانا، إذا لم يتم الإفراج عن أبو الخير خلال 24 ساعة، أنا مستقيل.
وكان من سوء حظ جمال عبد الناصر وضباطه الأحرار أنّ أبو الخير نجيب عاش الحرية، والكرامة، والاستقلالية، والدفاع عن الحريات العامة، واستقلالية القضاء، على زمن الإنكليز والملك .. في شهر مارس/ آذار 1954، حصلت أزمة بين مجلس قيادة الثورة واللواء محمد نجيب، تتعلق بالسؤال عن الديمقراطية، وهل على الجيش أن يعود إلى ثكناته، وتعود البلاد إلى حكم المدنيين والمؤسسات الديمقراطية، أم يتابع الضباط الانقلابيون سيطرتهم على البلاد؟ انتصر العسكر بالطبع، وذهب نجيب إلى الإقامة الجبرية .. وقتها كتب أبو الخير نجيب مقالة أودت به، وعنوانها "عشرة ملوك بدلاً من ملك" .. وسجن على إثرها تسع عشرة سنة، حتى جاء أنور السادات، ولم يعفُ عنه، بل أطلق سراحه لأسباب صحية.