بعد حفل افتتاح المونديال
ما تبدّى في متابعة الانطباعات (والارتسامات) التي ذاعت بعد مشاهدات الملايين في العالم حفل افتتاح كأس العالم في ملعب البيت في الخور في قطر أن الإعجاب المستحقّ به لم يتعلّق فقط بالإبهار البديع لعروض اللوحات السبع فيه، باستخدام مؤثّراتٍ وتقنياتٍ بصريةٍ أفيد بأن بعضها استُخدم هنا لأول مرة عالميا، وإنما أيضا بالرسائل الثقافية والإنسانية (الكونية إن شئت) التي توجّهت بها هذه اللوحات التي تنوّعت، وزاوجت بين القطري المحلي والعربي والإسلامي والغربي، بين القديم التراثي والحديث الجديد. ومن غير مقصدٍ أبدا، بدا المنطوق العام الذي أوحت به هذه العروض، الموسيقية والفنية والمشهدية، يردّ على كل عنصرياتٍ فوقيةٍ مقيتة، على كل من آثروا أن يقيموا في مطارح الكراهية والبغض، وعلى من نظروا إلى أنفسهم من موقعٍ مركزيٍّ في العالم، فيما الآخرون في الهوامش.
كان من الطبيعيّ أن يبدأ الحفل بآياتٍ من القرآن الكريم، كان من البديهيّ أن تكون الآية الكريمة "يا أيها الناس، لقد خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، فدين الدولة التي ينتظم فيها الحفل البهيج، والمونديال بداهةً، هو الإسلام. وكان مهمّا أن يرى الناس في كل الأرض خيولا وجِمالا، ثم يشاهدوا كل شيء، الفن والرياضة وقمصان 32 فريقا يمثلون دولهم من قارّات الأرض، ويستمتعوا برقصاتٍ وإيقاعاتٍ عربيةٍ وآسيويةٍ وأوروبيةٍ وأفريقيةٍ وأميركية. هذا الاجتماع الإنساني العريض، كما أتقن تقديمَه مئات العازفين والراقصين والمؤدّين، كان مهما أن يراه الجميع مرسلةً تحتاجها البشرية، تنطلق من ملعبٍ مصمّمٍ على هيئة خيمة، بما قد يوحي بأن العرب، في الخليج وغيره، وقد سكنوا الخيمة وأبدعوا وأعطوا وتألّقوا وبنوا، ويعدّون الخيمة مبعث اعتزاز، بهذا المعنى، ولينصرف كل ذلك الاستشراق المعادي، قديمِه وجديده، إلى حيث ألقت، وقد دأب كثيرا وطويلا على ترميز العربي بخيمةٍ في صحراء.
ومن مفارقاتٍ تطرأ على الخاطر أن بعضا ممن نشطوا في التهجّم على قطر، أخيرا، وصموها بعدم احترامها ذوي الحاجات الخاصة، في فريةٍ مخترعةٍ بالغة الغرابة. وهذا هو افتتاح المونديال يكون النجم فيه الشاب القطري غانم المفتاح، سفير النيات الحسنة لبلاده، وصاحب قصةٍ في حياته ملهمة. يسأله الممثل الأميركي، مورغان فريمان، عمّ يطيل التوافق بين الناس أكثر وأكثر، يجيب الغانم "بالتسامح والاحترام". وأظنّه الحوار المكثّف الذي دار بين اثنيهما لفتَ ناسا بلا عدد، كانت أبصارُهم منشدّةً إلى المشهديات البديعة في حفلٍ قصيرٍ غنيٍّ بالدلالات. كما الأغنية الجماعية "بالحب والخير"، بأهازيج ورقصاتٍ قطريةٍ فيها، وبحضورٍ للمرأة القطرية أيضا.
وعندما يسمّي أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في كلمته التي أوجزت وفاضت بالمعاني، "المهرجان الكروي الكبير" في بلاده فضاءً إنسانيا مفتوحا للتواصل الإنساني والحضاري، فذلكم هو ما يشهد عليه اجتماع العالم في قطر، فأنت في الدوحة تُصادِف، في هذه الأيام، القادمين إليها من بلدان عديدة، لتشجيع فرقهم الكروية، وللاحتفال بهذه التظاهرة الكونية، ولتوسّل المتعة والفرح، وليتعرّفوا على بلدٍ يزورُه كثيرون منهم أول مرّة. وإذ بات مألوفا أن تُشاهد آلافا منهم يرتدون الكوفية والعقال القطريين (أو العربيين الخليجيين)، بل وأثوابا خليجيةً أيضا، وإنْ بألوان أعلام بلدانهم ومنتخباتها، فذلك مما يبعث فيك انبساطا وتحبّبا. والأرجح أن حال هؤلاء عندما يعودون إلى أريافهم ومدنهم وقراهم وبلداتهم، في بلادهم، لن يكون كما قدومهم، بعد كثيرٍ شاهدوه في دولة قطر وما حظوا به من غبطة ناسها وسكّانها بهم، وقد آنسوا في مرافق الدولة وأسواقها وشوارعها، وفي كل من فيها وما فيها، دعةً وصفاءَ بالٍ وفيريْن. لقد أبهجهم "لعّيب" بعقاله وكوفيته، بانسيابية حركته وبساطته، بثوبه الأبيض، وبما يبثّه مشهدُه من أسباب هناءة النفس. شاهدوه كما لو أنه طائرٌ في حفل افتتاح المونديال.
سمعنا هناك في ملعب البيت في الخور أغنية "حالمون" بأداء القطري فهد الكبيسي والكوري (الجنوبي) جيون جونغكو، وفيها "انظر من نحن، نحن الحالمون، سنحقق ذلك لأننا نؤمن به، انظر من نحن، نحن الحالمون". ... لنحلم بعالمٍ عادلٍ أمين وآمن، تتفق فيه البشرية على الخير والسعادة. .. لنفرح بكرة القدم في مونديال قطر.