"بنات عبد الرحمن" ... الأنوثة تطلق صرختها
لاقى الفيلم الأردني "بنات عبد الرحمن" إقبالاً واسعاً عند عرضه في عواصم عربية عديدة، وتواصل عرضه في دور السينما في عمّان ستة أسابيع متتالية، وحقّق نسب مشاهدة غير مسبوقة. الفيلم من تأليف زيد أبو حمدان وإخراجه، وتمثيل ممثلات أردنيات مبدعات، فرح بسيسو، صبا مبارك، حنان الحلو، مريم الباشا، إضافة إلى مشاركة المخرج والممثل الأردني خالد الطريفي الذي أدّى دور الأب المفقود. تجري أحداث الفيلم في حي شعبي في شرق عمّان. ويتناول حكاية أربع شقيقات يتيمات الأم، يمثلن نماذج نسائية مختلفة، يطغى على علاقتهن التوتر والتنافر والجفاء، ما جعلهن يتباعدن سنوات طويلة، غير أنهن يضطررن لأن يوجدن من جديد في بيت العائلة، بعد اختفاء والدهن الغامض الذي كان مقيماً مع الابنة الكبرى زينب (أدّت دورها ببراعة شديدة فرح بسيسو)، العزباء الحزينة المسالمة التي تعمل خياطة، وتعتني بوالدها المريض وتعيله، وتدير شؤون المنزل بعد أن غادرته شقيقاتها الثلاث إلى حيواتهن المستقلة، وقد لازمتها قصة حبٍّ قديم لم يبق منه سوى ذكرى بعيدة.
تحاول الشقيقات تجاوز خلافاتهن، بغية العثور على والدهن الذي اختفى على نحو مفاجئ. ومن حواراتهن التي تتحوّل أحياناً إلى شجارات، يضيء المخرج على حياة كلّ منهن، المنقّبة التعيسة المقهورة المستلبة في حياتها الزوجية، ومع ذلك تكتشف جانباً قوياً في شخصيتها، حين تتصدّى لزوجها المستبد وتنقذ ابنتها القاصر من الزواج بالإكراه. أما سليطة اللسان فتمثل نموذج المرأة المتحرّرة شكلاً، غير أنّها أسيرة الخيبة إثر زواج فاشل، يربطها بزوج خائن، تتملكها على الدوام مشاعر الغضب والرفض للواقع. آخر العنقود المتمرّدة على قيم العائلة المحافظة تعيش وتعمل في دبي، مرتبطة بعلاقة لم تتوّج بالزواج، ما جعلها سبباً لشعور الأب وأفراد العائلة بالخزي والعار.
أشاد نقادٌ كثيرون بالفيلم المتميز، واعتبروه قفزة نوعية في تاريخ السينما الأردنية. وقد فاز بجائزة الجمهور في مهرجان سينما وثقافة الشرق الأوسط المعاصرة في فلورنسا، وكذلك في مهرجان إسبينو السينمائي للمخرجين، ومهرجان سان دييغو في الولايات المتحدة، ومهرجان القاهرة السينمائي. وهو يطرح، بجرأة وعمق وصدق فني، وبواقعية خشنة، صادمة أحياناً، قضايا المرأة العربية الشائكة ومعاناتها في مجتمعٍ معادٍ متسلط، وذلك من خلال تناول ظواهر سلبية، مثل التمييز بين الجنسين والتحرّش الجنسي وزواج القاصرات والتطرّف الديني والخيانة الزوجية، ونظرة المجتمع المتخلفة إلى المرأة غير المتزوجة بضاعة كاسدة.
ويُبرز "بنات عبد الرحمن"، بشكل ذكي، مظاهر الانفصام الحاد في العاصمة عمّان بين شقّيها، الشرقي والغربي. ويتبدّى ذلك في نمط الحياة الغربي المستورد في بعض مناطق عمّان الغربية، حيث يتسنّى للنساء التحرّر من قيود عدة، فيما تعاني النساء في المناطق الشعبية، بصورة أكبر وأكثر قسوة، في ظل هيمنة ذكورية، تستخدم ما يناسبها من الخطاب الديني، بما يحقّق سيادتها المطلقة. وفي قفلة رائعة، تفضح زينب أسرار أهل الحي المظلمة، وتكشف مدى النفاق والكذب والتواطؤ الذي يعيشون فيه، متستّرين زوراً وبهتاناً بلباس الفضيلة المزيّف. يظهر الأب متقبلاً بناته متصالحاً معهن، متحرّراً من سطوة المجتمع الكاذب الذي ينظر إليه بعين الشفقة، لأنّه لم ينجب الذكور، يتقبل استقلاليتهن، ويبارك قراراتهن في الحياة.
تطلق الأنوثة، في فيلم "بنات عبد الرحمن"، صرختها العالية المدوّية المحتجّة، فينتصر الحب وتتحقّق العدالة وتنتزع الحرية.
شكراً لكل القائمين على هذا العمل المدهش، الذي يحثّ على الانعتاق، وإلى مزيد من الألق والإبداع.