بوتين وتحدّيات ما بعد كورسك
أرادت أوكرانيا من هجومها المباغت المستمر ّعلى محور كورسك أن تأخذ زمام المبادرة، وتُمسك ببعض الخيوط، بعد أن فقدت الكثير منها في الفترة الماضية. فقد جاء الهجوم بعد سلسلة طويلة من التراجعات الميدانية من الجانب الأوكراني الذي واجه صعوبات في تجنيد مزيد من العناصر لزجّها في المعركة، كذلك عانى من تلكؤ في الدعم العسكري الغربي، وخسر مزيداً من الأراضي في شرق دونيتسك، حيث كان يدور جزء كبير من القتال. وقد سبق ذلك كله فشل الهجوم المضاد الذي قامت به أوكرانيا في صيف العام الماضي. أنعش مؤتمر دول حلف الناتو الذي عقد في الشهر الماضي قضية أوكرانيا بالالتزامات التي قدّمتها بعض الدول الأعضاء، وربما جاء الهجوم على كورسك الخارج عن التوقّعات نتيجة ذلك الدعم، وقد خلّف دوافع ستركّز على الجانب السياسي بالدرجة الأولى.
ليس من المتوقّع أن يكون لدى الجانب الأوكراني قدرة على زيادة التوغّل، أو الدخول عميقاً في الأراضي الروسية، فهذه عملية واسعة تحتاج تجهيزات ومعدّات عسكرية ولوجستية متعدّدة، ليس لدى أوكرانيا القدرة على تأمينها، ولا يستطيع الغرب إرسالها بالسرعة المطلوبة. وحتى لو استطاعت أوكرانيا زيادة توغلها بسبب ضعف الجانب الدفاعي الروسي، فهي غير قادرة على إنهاء الحرب بهذه الطريقة، ولا تأمين النصر وصولاً إلى استسلام الروس. على العكس، ستكون ردّة الفعل الروسية مُقلقة إزاء دخول أوكراني عميق، كذلك فإن الحلفاء الغربيين لن يساندوا تقدّماً كبيراً داخل روسيا، والموقف الغربي الحالي متحفّظ رغم أن معظم داعمي أوكرانيا يقرّون بحقها في الدفاع عن أراضيها، ووسّعوا مفهومهم لمنطق الدفاع، بإدخال صيغ تتضمّن الهجوم على أراضٍ روسية، الهدف منه دفاعي، لكن بعض الحلفاء أحجموا عن الدعم المباشر أو الموارب، كإيطاليا التي حذّرت أوكرانيا من استخدام الأسلحة الإيطالية ضمن الأراضي الروسية. وهذا لا يعني أن أوكرانيا ستجد نفسها وحيدة داخل روسيا، ولكن عليها التوقّف عند حدٍّ معين، والتشبث بما تملك، ولهذا انعكاس على الغرب يقوّي موقفهم في مواجهة روسيا.
أنهى نجاح الهجوم الأوكراني والظفر برأس جسر داخل روسيا شهوراً من الإحباط لدى الجنود والقيادة في أوكرانيا، بعد أن كان ثمة شعور روسي بالتقدّم، رغم أنه كان مكلفاً. وكانت أوكرانيا بحاجة إلى جرعة تقوية من هذا النوع، وقد حصلت عليها. وأحدث الهجوم هالة من التساؤلات بشأن شخصية بوتين الذي أمضى ربع قرن في منصب المسؤول الروسي الأول، وبدا صاحب القرار الأول والأخير بشنّ الحرب، وأرسى في شارعه مفاهيم أمنية واستقراراً، ليأتي هذا الاختراق الذي يعدّ أكبر هجوم على الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية.
يمكن أن يكسر نجاح الهجوم هالة "القيصر" التي أحاط بها نفسه، وصدقها بعض الروس، وتُحجِمُ روسيا عن نقل قوات كبيرة إلى جبهات كورسك، حيث لم تصل تعزيزات مهمة قادرة على صد الهجوم، الأمر الذي يُقرأ منه مدى الصدمة التي خلفها الحدث.
لا يخلو الهجوم الأوكراني من بعض المحاذير، رغم النجاح الأولي الذي حقّقه، ولم يبدُ رد الفعل الروسي على هذا الاختراق كافياً، ولا يعكس تأني روسيا الصدمة فقط، بل يمكن أن يدل على تمهّل في دراسة الخيارات القليلة أصلاً. ولكن بعد امتصاص الصدمة، قد تصعّد روسيا المواجهة، أو تنقلها إلى مستوىً أشد، وتُدخل فيه أطرافاً أخرى كبيلاروسيا، التي تحدّث وزير دفاعها، فيكتور خرينين، عن احتمال كبير لـ "استفزاز مسلح من أوكرانيا المجاورة"، ما سيؤخّر كثيراً في زمن الحرب، لكن الهجوم، إن طال أمده، قد يشكّل حمولة إضافية على أوكرانيا والدول الداعمة لها، التي تلكأت في الماضي بتلبية احتياجاتها العسكرية. وفي كل حال، فتحت أوكرانيا بهذا الهجوم باباً كان محرّماً، لن تغلقه وحدها.