بين إنجازات كرة اليد وإخفاقات كرة القدم في مصر
شهد الفضاء الرياضي المصري الأسبوع الجاري مشهديْن مُتناقضيْن كلّ التناقض في يوميْن متتالييْن، ففي مساء السبت الماضي حقّق المنتخب المصري لكرة اليد لقب كأس الأمم الأفريقيّة، للمرّة الثالثة على التوالي والتاسعة في تاريخه، بعد الفوز على نظيره الجزائري في المباراة النهائيّة في استاد القاهرة بنتيجة 29 – 21، بعدما قدّم المنتخب المصري عروضاً قويّة في مباريات البطولة، وبهذا يتأهّل المنتخب المصري ممثّلاً لأفريقيا، في أولمبياد باريس 2024 الصيف المقبل. وفي المقابل وفي اليوم التالي، ودّع المنتخب المصري لكرة القدم نهائيات كأس الأمم الأفريقيّة 2023 في ساحل العاج، بعد هزيمته مساء الأحد الماضي، في دور ثمن النهائي من منتخب الكونغو الديمقراطيّة بركلات الترجيح بنتيجة 8-7 بعد انتهاء الوقتيْن الأصلي والإضافي بالتعادل الإيجابي. وقد كان الخروج المُبكّر للمنتخب المصري مُتوقّعاً، فقد تأهّل بصعوبة بالغة إلى الدور الثاني محتّلاً وصافة مجموعته التي ضمّت منتخبات موزمبيق وغانا والرأس الأخضر، بعد عروض باهتة وأداء هزيل في المباريات الثلاث التي انتهت جميعها بالتعادل، سجّل المنتخب المصري خلالها ستة أهداف، واستقبلت شباكه مثلها، ولم يحقّق أي فوز لتكون المرّة الأولى التي يغادر فيها المنتخب المصري بطولة أفريقيا، من دون فوز منذ دورة السنغال عام 1992 المكنّاة في التراث الكرويّ المصري "نكسة زيجنشور".
يحمل المشهدان المُتناقضان دلالات عديدة كثيفة، تستحقّ التأمّل، لمحاولة معرفة أسباب الإنجازات التي تحقّقها منتخبات كرة اليد المصريّة، في مقابل الخيبات المتوالية لمنتخبات كرة القدم. ... الفارق الأساسي يكمن في الاختلاف الكبير بين المنظومتيْن، فمنظومة كرة اليد احترافيّة تتسم بالكفاءة والانضباط، ولا تعرف المجاملات والمحسوبيّات، وقد قامت على أسس راسخة، عندما أسسها منذ عقود حسن مصطفى (يشغل منصب رئيس الاتحاد الدولي لكرة اليد منذ 1998) وقتما كان رئيساً للاتحاد المصري لكرة اليد، بعدما استقدم في عام 1990 الخبير الألماني باول تيدمان الذي وضع كرة اليد المصرية على الطريق الصحيح، عبر خطّة بعيدة المدى للنهوض بكلّ عناصر اللعبة، وقاد المنتخب المصري للفوز باللقب الأفريقي لأوّل مرّة في تاريخه عام 1991 في القاهرة، فاللقب الثاني في العام التالي مباشرة في ساحل العاج. ثمّ جاءت الخطوة الأولى على طريق العالميّة، بالوصول إلى بطولة العالم لكرة اليد في السويد عام 1993، التي حقّق فيها المنتخب المصري المركز الثاني عشر، بيْد أن منتخب مصر في بطولة العالم بأيسلندا عام 1995 حقّق إنجازاً غير مسبوق، بالوجود ضمن السبعة الكبار، ومنذ ذلك الحين لم تغب مصر عن المشهد الدولي في كرة اليد.
طرأ في السنوات الأخيرة عاملان جديدان في الفضاء الكروي، ساهما في تدمير الكرة المصريّة،: "أمننة" المجال الكروي وتسليع الرياضة، و"رَسْمَلَة" الكرة التي تفاقمت أخيرا في مصر
أمّا منظومة كرة القدم المصريّة فهي تعاني عشوائيّة هائلة، تبدأ من منظومة انتخابيّة مشوّهة، تحمل عواراً هيكليّاً في نظام التصويت، سمحت لشخصيّاتٍ لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالوجود في مجلس اتحاد الكرة، بل وترؤّسه، من دون أيّ مبرّر منطقي. ثمّ جاءت موجة "الرَسْمَلَة" العاتية، المشوبة بفساد كبير، التي اجتاحت الفضاء الكروي المصري في السنوات الأخيرة، لتزيد الطين بلّة، فأسعار اللاعبين المصريين في الدوري المصري الهزيل هي الأعلى في أفريقيا مقارنة بنظرائهم في بطولات دوري على قدر من التنافسيّة، مثل الدوري المغربي أو التونسي، وينطبق الأمر نفسه على رواتب المدرّبين في الأندية المصريّة، سواء كانوا من المحلييّن أم الأجانب. ويكفي هنا أن راتب المدرّب البرتغالي روي فيتوريا، الذي يتقاضى شهريّاً، من دون أيّ مبرّر منطقي، في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة، مائتي ألف يورو، وهو مبلغ خيالي مقارنة بقدراته المحدودة التي كشفت عنها مباريات المنتخب المصري، كما أن راتبَه يفوق بمراحل راتب مدرّب المنتخب المغربي وليد الركراكي 60 ألف يورو، ووصل بفريقه إلى المربّع الذهبي في مونديال قطر 2022، كما يفوق راتب مدرّب المنتخب السنغالي إليو سيسيه، بطل النسخة الماضية من كأس أفريقيا، 46 ألف يورو شهريّاً. والمفارقة الطريفة أن صراع المنافسة في الدوري المصري ليس في القمّة، وإنما في القاع، فمنذ الأسابيع الأولى للدوري، يشهد قاع الجدول صراعاً شرساً بين أكثر من نصف فرق الدوري، من أجل البقاء في الممتاز، والنجاة من شبح الهبوط إلى دوري "المظاليم" (!).
طرأ في السنوات الأخيرة عاملان جديدان في الفضاء الكروي، ساهما في تدمير الكرة المصريّة، أولهما "أمننة" المجال الكروي بهيمنة النظرة الأمنيّة على المجال الكروي، بحلّ روابط المُشجّعين وتجريم مجموعات ما يُعرف بـ"الألتراس"، ما أدّى إلى تفريغ الملاعب من الجماهير، وإخلاء المدرّجات من المُشجّعين، إلا بصورة محدودة بين حين وآخر، ومعلوم أن الحضور الجماهيري هو العامل الأوّل في صناعة القيمة التسويقيّة والاقتصاديّة للكرة. والثاني عملية تسليع الرياضة، و"رَسْمَلَة" الكرة التي تفاقمت أخيرا في مصر، في العِقد الأخير بصورة بالغة الغرابة، وهو أمر يطرح تساؤلات عديدة عن دورة رأس المال في الصناعة الكرويّة، وهو ما أنتج آثاراً بالغة السوء، تمثّلت في تدمير الأندية الشعبيّة ذات الموارد المحدودة، في مقابل حضور واسع لأندية الشركات والمؤسّسات ذات الظهير المالي الكبير.
كما عرف الفضاء الكروي المصري ظاهرة جديدة للإنفاق من دون حدود، مثّلها ذلك المسؤول الخليجي الرفيع، المعروف بعلاقاته الوثيقة بالسلطة في مصر، الذي حاول اختراق المنظومة الإداريّة للنادي الأهلي (يمثّل بمنظومته الراسخة الاستثناء المُضيء الوحيد في الكرة المصريّة، فهو الذي يرفع رايتها في المحافل القاريّة والدوليّة، رغم تعرّضه لحملات مُمنهَجة من الضغوط، ولولاه لسقطت الكرة المصرية منذ أمدٍ في النسيان) ومحاولة إفسادها، لكن محاولته باءت بفشل ذريع، فأسّس نادياً أنفق نحو أربعة مليارات من الجنيهات في أقلّ من ستة أعوام، وأشعل أسعار اللاعبين في مصر من دون أدنى مبرّر معقول، ورغم ذلك فشل فشلاً ذريعاً في الحصول على بطولة واحدة.
ليس إنفاق الأندية على الكرة متروكاً من دون حدود كما يتوهّم بعضهم، بل هو محكوم بقواعد واضحة محدّدة
وليس إنفاق الأندية على الكرة متروكاً من دون حدود كما يتوهّم بعضهم، بل هو محكوم بقواعد واضحة محدّدة، فالاتحاد الأوروبي لكرة القدم، على سبيل المثال، وضع قواعد صارمة للإنفاق على شراء اللاعبين، تحقّق قدراً من الشفافية أطلق عليها "اللعب المالي النظيف"، تتعلّق بالمداخيل الماليّة لكلّ نادٍ، تنحصر في ثلاثة عناصر على سبيل الحصر: عقود الرعاية وحقوق البثّ التلفزيوني وعوائد بيع التذاكر. وعلى كلّ نادٍ أن يُعلن رسمياً عن حجم مداخيله، وإذا أبرم صفقة تتجاوز حجم مداخيله الماليّة، تعرّض لعقوباتٍ مُشدّدةٍ كما حدث مع نادي مانشستر سيتي الإنكليزي قبل أعوام، أمّا أن يُترَك أيّ نادٍ يُنفق كيفما شاء، كما يفعل النادي إيّاه في مصر فهذا وضع بالغ الغرابة والشذوذ.
لا يمكن فصل فشل مصر الكرويّ عن فشلها الإداري، ولا يمكن فصل هذا أو ذاك عن مشكلاتها السياسيّة والاقتصاديّة المُزمِنة، فالنجاح يتسم بالاستطراق، كما هو حال الفشل، وللنجاح منظومة، كما أن للفشل منظومة، وخيبات المصريين الكرويّة قديمة متجدّدة تُعيد إنتاج نفسها منذ عقود، من دون بارقة أمل في إصلاح على المدى القريب، طالما ظلّت عناصر المعادلة على حالها، فالمُخرَجات تكون على قدر جودة المُدخَلات.