بين إيران والعرب
للمرّة الثانية منذ التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، تتمكّن إيران من فرض نفسها على التفاهمات الثنائية التركية الروسية. كانت الأولى مع انطلاق ما أصبح يعرف الآن بمسار أستانة، حيث توصلت تركيا وروسيا، بعد التقارب الذي نشأ بينهما على خلفية تعاون الكرملين مع حكومة الرئيس أردوغان لإحباط المحاولة الانقلابية لإطاحتها صيف العام 2016، إلى تفاهمات ثنائية سمحت موسكو بمقتضاها لأنقرة بأول توغّل عسكري كبير داخل الأراضي السورية لقطع الطريق على أية محاولة لإنشاء كيان كردي شمال سورية، حيث استولت القوات التركية وفصائل المعارضة السورية المتحالفة معها على ما تسمّى اليوم منطقة "درع الفرات". في المقابل، وافقت أنقرة على ممارسة ضغوط على فصائل المعارضة السورية للانسحاب من أحياء مدينة حلب الشرقية. عارضت ايران أول الأمر التفاهم التركي - الروسي، لأنها أرادت القضاء كليا على فصائل المعارضة بدلا من تركها تخرج لتقاتل في يوم آخر، بيد أنها غيّرت موقفها عندما أدركت أن تعنّتها لن يغيّر في الأمر شيئا، فعمدت إلى الالتحاق بقطار أستانة بدل التخلف عنه.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، عبّرت طهران في غير مناسبة عن انزعاجها من استبعادها من المفاوضات التركية - الروسية التي أسفرت عن أول اجتماع رفيع المستوى بين حكومة أنقرة والنظام السوري، وأكد أكثر من مسؤول إيراني أن أي مساعٍ لتحقيق تقاربٍ بين دمشق وأنقرة لن تنجح إلا إذا حصلت في إطار مسار أستانة، أي بوجود إيران ومشاركتها. كما سجلت طهران "عتبا" على حليفها في دمشق، لأنه لم يستشرها بشأن اجتماع موسكو، ولم يُطلعها على ما دار فيه بعد انتهائه. وقد سرى أن ذلك تسبّب بفتور في العلاقة بين دمشق وطهران، وتسبّب في تأجيل زيارة كانت مقرّرة للرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى دمشق. وكانت أنباء سرت قبل ذلك عن توتر شاب زيارة قام بها إلى دمشق وزير النقل الايراني والضابط السابق في الحرس الثوري، رستم قاسمي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بسبب الموضوع نفسه.
ولكن طهران قرّرت أن لا تستسلم أمام محاولات إقصائها عن المفاوضات الثلاثية بين موسكو وأنقرة ودمشق، فأطلقت حملة دبلوماسية واسعة باتجاه العواصم الثلاث، قادها وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، الذي زار دمشق وأنقرة، وكان مقرّرا أن يزور موسكو، لكن زيارته تأجلت لأسباب مجهولة، واستعيض عنها بحديث هاتفي بين الرئيسين الإيراني والروسي. وقد أسفرت الجهود الإيرانية، في نهاية المطاف، عن تخصيص مقعد لإيران على طاولة المفاوضات الثلاثية لتصبح رباعية.
الإلحاح الإيراني الذي يبلغ حد السماجة في محاولته فرض نفسه على الآخرين، يقابله غياب عربي كامل يعكس حالةً من البرود واللامبالاة تجاه قضيةٍ بأهمية القضية السورية، يتوقف عليها نجاح المشروع الإيراني أو اندحاره. فشل العرب قبل ذلك في انتزاع مقعدٍ على طاولة مفاوضات الملف النووي الإيراني، رغم أن هذا الملف يعنيهم أكثر من جميع الدول الست التي فاوضت إيران (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، الصين، فرنسا، وألمانيا).
واقع الحال أن النظام الإيراني لا يملك أي قدراتٍ خارقةٍ للعادة، تمكّنه من النفاذ إلى أهم ملفات المنطقة، كما يحاول معجبوه ترويجه. على العكس تماما، تعدّ قدرات صانع القرار الإيراني عادية في أفضل الحالات، ونقاط ضعفه كثيرة وكبيرة، تزيدها سوءا هيمنة قراءات أيديولوجية على حساباته وتقديراته وطريقة تفكيره. بهذا المعنى، يصبح الحديث عن دهاء مزعوم لهذا النظام مجرّد بروباغندا فارغة لا تدعمها أي وقائع، وإلا فلماذا تقبع إيران تحت الحصار منذ نصف قرن تقريبا، ولماذا ينهار اقتصادها، وتهرُب عقولها، ويركب مواطنوها البحر مثل غيرهم من اللاجئين الباحثين عن أوطانٍ بديلة، ولماذا يعيش نصف الإيرانيين تحت خط الفقر، فيما تمتلك بلادهم ثاني احتياط غاز في العالم ورابع احتياط نفط؟
أي نجاحات يحققها النظام الإيراني في سياسته الخارجية تقوم على ثلاث ركائز أساسية: الإلحاح في بلوغ الغاية، القدرة على التعطيل، وثالثها، وأهمها ربما، قصر نفس خصمه في المواجهة (وهو هنا الطرف العربي) وانصرافه، في أغلب الأحيان، إلى قضايا أكثرها لهو ولعب. طبعا الموضوع أعقد من ذلك بكثير، لكن هذا محورٌ رئيسٌ فيه.