بين الأديب والرقاصة
كنا، في القديم، نستهجن أن يقارن أديبٌ ما نفسَه بالرقاصة، ولكن هذا حصل كثيراً، فذات مرة قال أحدُهم إن ما يقبضه لقاء نشر عشر قطع من إبداعاته في الصحف المحلية تقبضه رقاصة في سهرة واحدة. وأحضر أديب آخر آلة حاسبة، وجلس يحسب ما يقبضه لقاء نشر إحدى قصائده في الجريدة الفلانية، وكانت النتيجة أنه يعادل ثمن هزّتين من خصرها! ولكن تلك المقارنة، في الأساس، ليست منطقية، لأن كل إنسان ميسّر لعمل ما، أو هواية معينة، فلا الرقاصات ينفعن للكتابة الأدبية، ولا الأدباء يجيدون الرقص، وإن أجادوه فلا يعقل أن يرقصوا لقاء المال.
كان يحدُث أن يذهب أحد الأدباء إلى محاسب مجلة الأطفال التي نشرت له قصة أو قصيدة، بعد شهرين أو ثلاثة من النشر، فيقبض منها 242 ليرة (50 دولاراً).. ومع ضآلة المبلغ تراه يبتهج في سرّه، لأنه يعيش على راتب هزيل في بلادٍ تختص سلطتُها بسرقة ثرواتِها وتحويلها إلى بنوك سويسرا، ويأتي إلى البيت حاملاً بيده أكياساً ملأى باللحوم والفراريج والخضر والفواكه، وتعيش الأسرة يوماً أو يومين من خيرات هذه المقطوعة الأدبية التي تكرّمت رئيسة التحرير، فوافقت على نشرها، بعد مماطلة وتسويف وعنعنة.. وكان هذا الأديب، وأمثالُه ممن يكتبون في الصحف والمجلات، ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى الذين يكتبون للإذاعة، أو يمثلون فيها، ويقبضون كومةً من النقود لقاء القسائم "البونات" التي تُصرف مرة في كل شهر، فتعويضات الإذاعة، حقيقةً، أحسن من تعويضات الصحف.. بيد أن شعْر الأدباء وكتاب الإذاعة، مجتمعين، كان يقف على طوله، عندما يعرفون أن الممثل النجم، أمثال سلوم حداد وبسام كوسا ودريد لحام وأمل عرفة وسلاف فواخرجي، يقبض على دور واحد، يؤديه في مسلسل يكفي شهر واحد لتصويره، ما يصل إلى مئات الألوف، وفي وقت لاحق صار يقاس بالملايين، فيقول في سرّه يا ليتني كنت ممثلاً، حتى ولو من الدرجة الثانية.
قبل حوالي ست سنوات، أحدثتُ، أنا أخاكم، حساباً على "تويتر". والحقيقة أنني أهملته، حتى خطر لي، خلال أزمة كورونا أن أفعّله، وبقيت على ذلك حتى تجاوز عدد متابعيَّ الألف، فامتلأت سروراً، ولكنني سرعان ما شعرت بالإحباط إذ طلع أمامي حساب لامرأة اسمها يتألف من مقطع واحد (Salwa). دخلت عليه وإذا بعدد متابعيها 154 ألفاً. وهذا أحدث لدي هواية غريبة، وهي البحث عن عدد متابعي بعض الشخصيات المشهورة، فوجدت أرقام متابعي العاملين في مجال الدعوة والإفتاء تسبب الصرع، فمتابعو الشيخ محمد العريفي مليون و820 ألفاً، وأبو إسحق الحويني مليونان وأربعمئة ألف، وهذا يقودنا إلى البحث في مجال آخر، كنت قد عملتُ فيه، وهو تقديم فيديو يتضمن مادة أدبية، فقبل ثلاث سنوات، قدّمت، من خلال تلفزيون سوريا، ثلاثين حلقة من برنامج بعنوان "حديث أبو المراديس"، وكان مدهشاً أن تحقق أولى حلقاته 75 ألف مشاهدة، وجلست أشرح لزوجتي الطيبة أن هذا يعود إلى أنني مشهور جداً، باعتبار أنني أكتب وأؤلف وأنشر منذ أربعين سنة، وهناك كثيرون يرونني ناقداً، لاذعاً، خفيف الظل. ولم أكن أعرف أن قسم الترويج في التلفزيون قد دفع نقوداً لترويج الفيديو، يعني الرقم ليس من قَدْح زندي، بدليل أن الفيديوهات اللاحقة غير المروّجة لم تتجاوز عشرة آلاف، وهذا كله وأنا غافلٌ عما يحصل في هذا العالم الافتراضي، فلم أكن أعرف، مثلاً، أن أغنية "أحبك" لحسين الجسمي حققت 178 مليون مشاهدة، حتى الآن. والفيديو الذي يتحدّث فيه وسيم يوسف عن الاستمناء عند الشباب والبنات شاهده عشرة ملايين..
هذه الأمثلة توصلنا، في النهاية، إلى أننا ربما أخطأنا في اختيار حرفة الأدب، وليس الرقص، أو الغناء، أو الوعظ.