بين الخطيئة والراديكالية النسوية
يبرز اسم تريز لوفاسور في حياة جان جاك روسّو وترجمته، يحضر في حياته الخاصة، كحياة جنسية ذاتية، ثم تعود حكايتها فيما يقال إن كتاب إميل في التربية كان تكفيراً عن خطيئته مع أطفال تريز. نحتاج هنا أن نفهم أيضاً أن موقف الراديكالية النسوية ضد روسو لم يكن قائماً على هذه العلاقة، وإنما في منظور فلسفته حول المرأة وتأكيد أنوثتها، وهندسة حضورها في عالم البيئة الاجتماعية، وهي مسألة لا يختصّ بها روسو، ولكنها تشمل غيره.
وهي هنا كما هو موقف كانط ومن تبعه، في الإيمان بالخالق، ووجوب حضوره في حياة الأخلاق للفرد، ولكنه يتفاوت بين كانط ومن بعده وتأثر به. وفي هذه المساحة، هناك مقاربة للمرأة مختلفة عن عالم اليوم، تحتاج إلى عمق تفكيكي، فهي بين توازن تربوي وإرث من الظلم للمرأة في الغرب، سببه خلط معقد بين تعريف الدين المسيحي واليهودي لذات المرأة ومآلات إخراجها كلياً، من الأنوثة والتضامن الأسري الرومانسي.
ومعلوم أن مطالبات الحركة النسوية الأولى كانت ضمن حقوق المرأة في ظروف العمل، أو أُجرته، ثم حق التصويت والمشاركة السياسية. أما مفهوم المساواة البيولوجية، ثم السعي إلى تدمير الهوية الجنسانية، وإعلان الرجل عدوّاً مطلقاً، ما لم يخضع هو ذاته، ويكون نسوياً بحسب شروط هذه المنظمات، فهي حالة متأخّرة، وإن انتشرت بقوة في العقدين الماضيين.
شهادات من قيادات نسوية، تنتقد المآل الكلي الذي أضحت عليه الحركة النسوية في عهد الراديكالية المتطرّفة
ما يجب لفت النظر إليه هنا مجدّداً هو فهم مساحة ردود الفعل التي عاشتها الثقافة الاجتماعية في الغرب، وكيف تحوّلت من تطرّف إلى تطرّف، وكيف أثرت الأجواء الكنسية الضاغطة فيها، وتداخلت مع الحياة العامة، ثم بقي هذا الإشكال يُطوّر تطرّفاً يتجاوز تطرّفه الآخر، فهناك شهادات من قيادات نسوية، تنتقد المآل الكلي الذي أضحت عليه الحركة النسوية في عهد الراديكالية المتطرّفة، والتي تنتقل إلى ثورة انتقام، لم تعد من الرجل وحسب، ولكن من شكل الأسرة، ورفض أي زواج طبيعي وفطري، وكأنما هناك حرب وجودٍ صفرية، تسعى إليها الراديكالية النسوية. وهذا لا يعني، بالضرورة، تزكية روسو ومآلات أحكامه، عن شراكة المرأة، لكنه إشارة مهمة لهذا المدار الذي يعسف بجدل الأفكار المعاصرة، والحاجة إلى النظر إليه من زاوية فلسفية وثقافية مستقلة، كما أن لروسو خطيئته الكبرى في هذه العلاقة، والتي تحتاج أيضاً أن توضع في سياق تقويم قناعاته، كما أنها تطرح دوماً معيار الأخلاق في حياة الفلسفة، ودور سوسيولوجية المؤلف في تحرير أفكاره، فمنذ أن بدأت رحلة النجاح لروسو في عودته الثانية إلى باريس، ظهرت تريز لوفاسور على المسرح، كانت شابّة ريفية حسناء، لم تكن ذات ثقافة، وكانت حسب ما تذكره ترجمة روسو متدنّية الذكاء، فقرّر، وهو صاحب تجربة في علاقته مع عشيقته السابقة، مدام دوفارنز، أن يضم تريز لحياته الشخصية، هل هو عطفٌ كما تقول الترجمة، أم أنه استثمار في جمالها، وتطرية لحياته الجافّة؟ أياً كانت مشاعر روسو في ضمّها لحياته الخاصة والتنقل بها، فحصيلة تعامله معها، لا بد من التوقف معها.
غادر روسو وتريز القرية الريفية، وبعدها كانت معه في كل ركنٍ من سكنه الخاص، أنجبت منه خمسة أطفال، ولكنه لم يعترف بزواجه منها إلا بعد 25 عاماً، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لكنه كان يُلقي الأطفال، طفلاً بعد الآخر، في بيوت رعاية المجهولين، ولو أننا أخذنا بشهادة روسو عن انحطاط المجتمع، والقوانين في ذلك الزمن التي ثار عليها، في عقده الاجتماعي.
دوماً نحتاج أن نفرز تأثير الطباع على حصيلة الفكر والتحرير الفلسفي للشخصيات التاريخية
فأي حياة للبؤساء عاشها أولئك الأطفال، فهل كان معنى تكفير روسو في إميل، أنه تكفيرٌ يدين هذه الفوضى في حياة الفيلسوف، أو المثقف الثوري؟ هناك فارق بين الفلسفة المشرعة للخطيئة والسلوك الشخصي، ودوماً نحتاج أن نفرز تأثير تلك الطباع على حصيلة الفكر والتحرير الفلسفي للشخصيات التاريخية، فلسنا مطلقاً نقلّل من ثروة الأفكار التي صنعت هذا التأسيس الدستوري، في العقد الاجتماعي، ومساهمته في نقل الحياة السياسية في أوروبا إلى الشريعة القانونية، المنظمّة حقوق شعوب الغرب، لكن ليس من الإنصاف أن نطوي هذه الصفحة، ولا نطرح تساؤلاتنا عنها.
لم تستطع تريز مواصلة الحياة معه، غضبت عليه وهجرته، بعد أن عصر قلبها على أطفالها، وأنهت العلاقة معه، فيما يشبه الثورة الاجتماعية لامرأة اضطُهدت في كنفه، وكأنها تستخدم فلسفته حين تمسّ حقوق الشعب، وهو يرتكبه في حياته الخاصة، فتقلب الطاولة عليه. هنا لا بد من العودة إلى مساحة التشريعات التي تخصّ الحريات الجنسية، في مسيرة فكر روسو، كما كان عند صديقه ديدرو، إننا نستعرض هنا مسألة مهمة في معايير المعرفة الإسلامية والفلسفة الأخلاقية لها، وهي أن الشيخ الفيلسوف أو الفقيه المسلم في الحضارة الإسلامية، وحتى العالم الذي اختصّ بعلوم الفلك، من دون بروز في علم ديني، أو انطلق في الفلسفة من دون تحرير الأحكام، فهنا نجد أن روح المراقبة والمساءلة في سلوكه تظلّ حاضرة، وينظر إليها بعين مدقّقة، وتوثيق ما ينقل عنه، وبعضها يستثمره خصومه ظلماً، وهو ما نال سلسلة من المصلحين والعلماء البارزين، ويُسقطهم من دون وجه حق.
كما أن الحُكم على نظرية المفكّر والفيلسوف لا يلزم منه أن يَسقط إذا وفّق إلى حقيقة علمية، ونظرية فلسفية وقاعدة تحرير مهمة في العلوم الاجتماعية، تستفيد منها الأسرة البشرية، غير أن ذلك لا يُلغي أهمية حضور الضمير الأخلاقي، وأنه في المعرفة الإسلامية يمثل رادعاً للخيانة العلمية والشخصية معاً، وجداراً يحجب عن الظلم ... وهذا بالطبع حين يكون حاضراً في ضمير الفيلسوف أو المفكر المسلم، فالقاعدة هنا أنهُ يراقب الخالق، في سلطته على الخلق، فكيف بامرأة معدومة ربطت حلم طفولتها وحياتها به.