بين الذات الإسرائيلية والإنسان اليهودي
تتفحّص بعض كتابات إدوارد سعيد ضيقَ أُفق الدراسات الأكاديمية (الغربية) أو ما يمكن أن نسمّيه بالدفاع ضيّق الأفق ضد التعددية الثقافية: وهذا ما يُمثل في التحليل النفسي شكلاً من انشطار الأنا (الغربية)، حيث تقطن الذاتُ مسرورة في واحدةٍ من شذرات ذاتها... (كريستوفر بالاس).
أحدثت علاقة إدوارد سعيد مع الموسيقار الإسرائيلي، دانيال بارنبويم، وتنظيم أوركسترا السلام معاً، صدمةً كبيرة في جدل كفاحه الفكري ومواجهته المشروع الصهيوني، وهي الفكرة التي وُلد عبرها مشروع الدولة (إسرائيل) بحسب سعيد ووائل حلاق وحلفائهما من اليسار الفلسفي، وفيهم باحثون يهود، وكان هذا الميلاد في السياق الذي ناضل فيه سعيد نتيجة تلقيح صناعي غير مشروع في الأرض العربية، قامت به ورعته المركزية الغربية الإنسانوية، المضطهدة إنسان الشرق والمخضعة جغرافيته بحسب مصالح الكولونيالية العالمية. وبالتالي، كيف يسوغ لسعيد ذي العلاقات الشخصية المتعدّدة مع زملائه اليهود، في نيويورك وخارج الولايات المتحدة، الخضوع، لهذه الصورة، في تقديم بارنبويم شريكاً إسرائيلياً، لا موسيقاراً يهودياً من أصلٍ أرجنتيني. والذي يُطالع تغطية الإعلام الغربي حينها، يجد التركيز على بارنبويم في إسرائيليته، وليس في يهوديته. وبالتالي، كانت الحفلات والأوركسترا المشتركة، تروَّج من صور التطبيع، فهل كان سعيد يرغب في تقديم هذا المشهد؟
تعطينا العودة إلى محاضرته في متحف فرويد في لندن دلالةً مهمة، خصوصاً أن سعيد كان يترقب الأيام الأخيرة لحياته، ولا يدري متى يرحل. وهنا يضغطُ على الإنسان المندمج في حياته الفكرية وعقيدته الإنسانية، زخمٌ هائل يجمع بين المعاناة الشخصية، وبالذات في مراحل الألم الأخيرة، وموقع هذه الأفكار من الإنسان الآخر ذاته.
رحلة التطبيع الضخمة التي تعبر اليوم تطرح الشراكة مع إسرائيل وتل أبيب، والعقيدة الصهيونية ذاتها، وليس الإنسان اليهودي المنتمي إلى شراكة العالم الوجودي
وسعيد نفسه فجّر هذا المكنون في الطرف الآخر، أي اليهودي غير الصهيوني، وذلك في الانفعال المنضبط الذي عبرت به جاكلين روز حدود المحاضرة، في فرويد إلى جدلها في ذات هذا الإنسان اليهودي. ولعل سعيد كان يدرك عواصف الوجدان في هذا الطرف المقابل، وأنه أيضا، أي اليهودي الآخر، ينتظر، من الطريق الثالث، انعطافة تقوده إلى اعتدال يُشبع رضاه، أمام آلة التجريف الصهيونية، المدعومة بكل قوة بالرأسمالية الأميركية.
يجبُ هنا أيضاً أن نشير إلى مجال تفاعل الإنسان في عالم العلاقات، مع الشراكة الوجودية على هذه الأرض، وهي مسألة حرّرها القرآن الكريم، حين أعطى مساحة العلاقة الإنسانية استقلالها، ولم يكن لسعيد أن يُشير إلى أي معادلة إسلامية بهذا الشأن، بسبب ما حرّرناه سابقاً في كتاب "جدلٌ ثالث"، من ضعفه الشديد في المعرفة الإسلامية، وفقدان الحماسة لمراجعتها، والذي كان يُشير إلى جهل رغبوي أحياناً في حياة سعيد، وتمنّع عن الدخول في معارج الفلسفة الأخلاقية، ولذلك نجح حلّاق في إدانته. لكن ذلك كله لا يعني أن سعيد سعى إلى تقديم صورة مختلفة عن عقيدته، وإن كانت مراقبة السلطات الأميركية الأمنية، التي وُثّقت في حياته من خلال تتبع مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي) اتصالاته، تضغط على سعيد أيضاً، في حين كان يُريد أن يقول لهم ولغيرهم، من جمهوره الغربي العريض، خصوصاً في الرواق الأكاديمي، إن معركته مع إسرائيل معركة مبدأ إنساني وأخلاقي، وليس مواجهة مع الإنسان الآخر.
لكنّ الذات الإسرائيلية هنا، محملةٌ، من حيث المشاركة الميكانيكية، في ترسيخ هذا الوجود، وليس في حقّ هذا الإنسان اليهودي. وعليه، رحلة التطبيع الضخمة التي تعبر اليوم، إلى الوطن العربي بكل مؤسّسات دولها من الخليج إلى المحيط، تطرح الشراكة مع إسرائيل وتل أبيب، والعقيدة الصهيونية ذاتها، وليس الإنسان اليهودي المنتمي إلى شراكة العالم الوجودي، وإنسانه أينما كان.
كانت فرص الحضور والتبجيل الغربي مفتوحة لسعيد، بل ووضع مكانته فوق شروط الأكاديميا الغربية وانحيازها
إنه مدخلٌ محرجٌ بالفعل، ولا يترتب على موقف رفض خدمة الانفصالية الإسرائيلية، تشريعُ المسَّ بالأسر المدنية المنعزلة عن الصراع العسكري وآلته، حتى في الأرض المحتلة، غير أن هذا الاستدعاء الضخم يصبُّ في مصلحة المستعمر وظلم الشعب المحتل البريء، وهو هنا فلسطين وشعبها، وهذا بالضبط ما نحتَهُ بكل قوة المفكر الماركسي فرانز فانون، وهو من استدعاه سعيد في محاضرته. وعليه، لا يمكن النظر إلى مساحة سعيد هنا في إطار خدمة ذلك التوظيف، من دون زعم حصانته من الأخطاء. غير أن سعيد، وخصوصا منذ اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان، كانت فرص الحضور والتبجيل الغربي مفتوحة له، بل ووضع مكانته فوق شروط الأكاديميا الغربية وانحيازها، وكانت ستشكل له ذلك الزمن مقعداً عالمياً لا مثيل له، وستصطفّ وسائل الإعلام الغربي للتصفيق له. ولكن روح سعيد، حتى في هذه المحاضرة الأخيرة في متحف فرويد، ظلت تدور على عقيدتها، فبقدر ما رفع فرويد في مسألة موسى والتوحيد، فضح فيه ذلك التولّه لخدمة العالم الكولونيالي لينجو إنسانه اليهودي، لا باسم إسرائيل ذالك الوقت، ولكن باسم المركزية التي صنعتها. وفي هذا يقول سعيد: "من الصحيح القول إن نظرة فرويد الثقافية مطبوعة بالمركزية الأوروبية – ولماذا لا يكون كذلك؟ (...) لأنّ عالمه لم يكن تعرض لعوامل (تأثيرات) معارك التحرّر من الاستعمار". وهذه بالضبط في الاتجاه المعاكس لفلسفة سعيد وغيره من نقّاد الاستشراق والكولونيالية الغربية، الذي أشار له كريستوفر بالاس وعزّزه في محاضرته.
وبالتالي، هنا نلتقط الخيط المهم لفهم موقف سعيد، إن وُفقنا لذلك، وهي أنهُ في رحلته المفتوحة عالمياً، يصعب عليه، في بعض الأحيان، أن يفصل الذات الإسرائيلية عن الإنسان اليهودي الذي ينفتح معه، بطبيعة الشراكة الوجودية لذات الإنسان، أو التوافق في روح الشراكة الفنية أو الأدبية أو النقدية، وبالذات في حالة الحسّ الموسيقي المرهف، وهي حساباتٌ دقيقة، يواجهها المفكّر والفيلسوف ومنظومة نقده تحتاج رؤية عميقة، تعتذر له أو تُنصفه حينَ تُدينه.