تجاذب القوة وتقاطع المصالح في ليبيا
ما زالت الأزمة الليبية منذ عقد تتجاذبها المصالح تارة، وتتقاطعها القوة الخارجية والداخلية تارة أخرى، لِتُحدث أزمات متتالية، لا تنفرج واحدةٌ حتى تعقبها أخرى، في شكل دائري مستمرّ، فالقوة الداخلية تتجاذبها التيارات السياسية والمصالح، بحسب الحالة الآنية والواقع السياسي المتقلب. وفي المقابل، أيضاً، هناك تيار يسعى إلى العودة بالبلاد إلى الوراء، وإلى حكم العسكر، ومصادرة الإرادة السياسية الشعبية. وشكّل هذا طيف الأزمة الليبية الحالية على مرّ عقد من عمر الثورة، غير أن هناك مفارقة أخرى، تمثلت في المؤسسات السياسية التي تسير بها البلاد، حيث أثقلت كاهل المواطن المنادي بتغييرها، واستبدالها، وفقاً للمنشأ القانوني والدستوري الذي أوجدها، غير أن هذا التوجّه المنادي بالتغير وتجديد الشرعية يعلو تارة ويهدأ تارة أخرى. يهدأ بفعل قوة خارجة عنه تشتت هذا التوجّه، وتنحني به إلى مناحٍ أخرى، تارة تغيير المناصب السيادية، وتارة أخرى حكومة تنفيذية، وتارة قوانين انتخابية معيبة، وتارة اختلاف في القاعدة الدستورية، وتارة قوة قاهرة لا يعلم أسبابها منعت تجديد الأجسام، وتارة وتارة. هكذا دواليك، ويبقى الحال كما هو عليه، مؤسسات فاقدة للشرعية من القاعدة الشعبية، تتجاذبها المصالح، تقرّب بينها مرة، وتباعد مرّات أخرى.
وفي المقابل، هناك عامل خارجي "مترنّح" يدعو إلى تجديد السلطة ولا يدعم تحقيقها، حيث يرتب الأولويات بحسب مصالحه في البلاد، وبالتالي، لا يهم تجديد السلطة من عدمه إن كانت المصالح متوافرة، ولا يمكن القفز عليها لهذه الدولة أو تلك، فعامل المصلحة هو المقدّم على كل الحسابات. وتبقى في ظل ذلك كله النخب وبعض التيارات السياسية تنادي بكسر الجمود السياسي والسير نحو تخطّي الأجسام السياسية الحالية الموجودة في البلاد، باعتبار أنها منحت أكثر من الوقت الكافي والمطلوب لتقديم أبسط الحقوق السياسية للبلاد، وفشلت في ذلك على مدار سنوات متتالية، تماهت معها النخب الداخلية في إيجاد حلّ، ولكن الفشل دائما هو العنوان الأبرز لهذه الأجسام.
برز أخيرا من ينادي بكل قوة إلى ضرورة القفز على الأجسام الحالية المعطّلة
وفي ظل هذا النفق، يبرز دائما شيء من الأمل نحو مرحلةٍ تتجدّد فيها الأجسام التشريعية، بمبادرات داخلية وأخرى خارجية، تتماهى مع ما يسعى إليه الشعب في الداخل، فقد برز أخيرا من ينادي بكل قوة إلى ضرورة القفز على الأجسام الحالية المعطّلة، والتوجّه نحو قانون الانتخابات رقم 4 لسنة 2012، أساسا دستوريا لتجديد هذه الأجسام، وبإشراف دولي عليها، كما هو محدّد في سياسة الأمم المتحدة، وتوفير الضمانات لاستقلالية المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وفاعليتها، ومنع تدخّل سلطات الأمر الواقع، التنفيذية والتشريعية، حتى يستطيع الشعب إيجاد جسم تشريعي جديد تنتهي من خلاله جميع الأجسام الحالية يتعامل مع مشروع الدستور، ويمهد الطريق إلى مرحلة دائمة.
ولا يجد المتابع للشأن الليبي، بكلّ تفاصيله وحيثياته، صعوبة في توصيف أن ذلك هو مكمن الداء والدواء، فالداء يكمن في عدم تجديد الأجسام الشرعية، والاعتماد على الحالية في تجديدها أو حتى إصدار قوانين تنظم ذلك، ناهيك أن تدفع بها وترتضيها مدخلا لحل الأزمة ككل. وأما الدواء فقد بات واضحا للعيان في تجديدها، ابتداء من الاعتماد على مسار قانوني ودستوري سابق، مثل قانون انتخاب المؤتمر الوطني العام في 2012 أو حتى قانون انتخاب البرلمان في 2014، كما أن ذلك كله لا بد أن يتوّج بإرادة داخلية فاعلة وقادرة على المطالبة بذلك، والدفع نحو هذا الاتجاه، وإيجاد حلفاء حقيقيين في الخارج. وذلك كله بما يضمن مصالح الجميع، بشرط أن يأتي هذا التوجّه من خارج الدوائر السياسية الرسمية الداخلية، وإنما بفعل إرادة محلية تتبنّاها كيانات سياسية وأفراد ونخب مستقلة، وإلا فستدور الدائرة على نفسها مرّة أخرى، ونبقى في انتظار العامل الخارجي في إيجاد حلول عبر ملتقيات حوارية أو ما شابه، قد تكون فاعلة لمرحلة مؤقتة لا أكثر، وإن امتدت سنوات.