تجديد حبس عروس النيل
في تغريدتين تفيضان بالرحمة والإنسانية، هنأ الجنرال عبد الفتاح السيسي، وزوجته، الأمتين العربية والإسلامية، والشعب المصري في الداخل والخارج، بحلول شهر الرحمة والمغفرة وإصلاح النفوس وتطهير القلوب.
في اللحظة ذاتها، كان هناك أبناء وأحفاد وعجائز بالآلاف يرفعون أيديهم بالدعاء على من حرمهم من أمهات وبنات يستقبلن شهر الرحمة في سجونٍ لا تعرف الرحمة، محبوسات في قضايا لا تعرف المنطق، بأحكام وقرارات لا تعرف العدل.
هذا هو حال أمة، من المفترض أنها تلملم نفسها، وترمّم شروخها، لمواجهة أكبر خطر يتهدّد وجودها كله، إذ يستأسد عليها هناك عند منابع النيل من يريد تعطيشها وخنقها وحرمانها من حصتها في مياه النهر، حيث يصفونها بأنها "هبة النيل".
تقول الأسطورة إن قدماء المصريين كانوا يلقون عروسًا من الخشب للنيل في موكب عظيم، يتقدمه الحاكم وحاشيته، عرفانًا بالجميل لهذا النيل العظيم".
الآن، ونحن في العام الحادي والعشرين من القرن الحادي والعشرين، يقول الكابوس الثقيل إن الحاكم وحاشيته، قد ألقوا عشراتٍ من عرائس النيل، لسن من الخشب، بل من لحم ودم، لعتمة الزنازين ووحشية السجان، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا للدفاع عن النيل الذي تحتجزه إثيوبيا، خلف سد عظيم.
تريد أثيوبيا أن تحبس النهر احتياطيًا عندها، وتجدّد له قرارات الحبس تلقائيًا، ولا تطلق سراحه إلا في المواعيد التي تراها، وبالمقادير التي تحدّدها، وحجتها أن لديها احتياجات ومتطلبات أمن قومي، تستدعي أن تشدّد قبضتها على النهر، وتُحكم حركته شمالًا بالحديد والنار، وترفع شعار عندما يكون الأمن القومي في خطر لا تحدّثني عن العواطف.
أما دولة المصب التي تشكو جبروت دولة المنبع وقسوتها، فإنها لا تتسامح أو تتهاون في أحكام وقرارات الحبس والاعتقال لمئات من السجينات، من كل الأعمار، ولا تغفل ولا تنام عن إصدار قرارات تجديد حبسهن في المواعيد المقرّرة، وإعادة تدويرهن في قضايا جديدة، إذ صدر قرار، سهوًا، بإخلاء السبيل، والشعار هو نفسه لا يتغير: عندما يكون الأمن القومي في خطر لا تحدّثني عن حقوق إنسان.
في أحدث ظهور لها، بملابس السجن، وقفت عائشة الشاطر أمام هيئة المحكمة، لتعلن بصوت واهن "أنا كإمرأة أصاب بالجنون بأني اشوف أولادي من بعيد ومش قادرة أحضنهم ولا أسلم واطمئن عليهم، أنا تعبانة ووضعي في السجن سيء والصفائح بتقل والوضع بتاعي دة محتاج عملية زرع للنخاع ليه كل التعنت دة".
عائشة واحدة من عشرات الأمهات المصريات في سجون عبد الفتاح السيسي، يمرّ عليهن رمضان، تلو رمضان، شهر الرحمة والعدل والإنسانية، كما يصفه الجنرال السيسي وزوجته في تغريدتين للتهنئة بحلول شهر الصيام، وهن داخل زنازين تفتقر للحد الأدنى من المعايير الإنسانية، تاركاتٍ خلفهن أبناء وأحفادا وأسرا كاملة تتحلق موائد إفطار اليوم الأول العامرة بأطباق متنوعة من الحزن والقهر والإحساس بالغربة في وطن من المفترض أنه يحتشد للدفاع عن نفسه ضد مؤامرة تستهدف قتله بالعطش.
ليس هناك إحصاء محدد لعدد السيدات المعذّبات في سجون السيسي، غير أن المؤكد أنهن بالعشرات، والثابت أن الرقم يتزايد ولا يتناقص، إذ لم يسمع أحد عن قرار بإخلاء سبيل إحداهن، بينما أخبار إلحاق نساء جدد بقائمة السجينات لا تتوقف، وآخرهن الشابة سناء سيف، التي صدر الحكم بسجنها في قضيةٍ عبثيةٍ، واجهت فيها اتهامات لها بإذاعة ونشر أخبار كاذبة متعلقة بتفشّي فيروس كورونا بين السجناء.
المؤكّد أيضًا أن نزيلات سجون نظام السيسي يمثلن طيفًا واسعًا من الشرائح الاجتماعية والثقافية، والعمرية، فمنهن الجدّة، مثل هدى عبد المنعم، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان بعد ثورة يناير، والتي تواجه متاعب صحية شديدة القسوة.. وهناك علا القرضاوي، وهي أم لثلاثة أبناء، وجدّة لثلاثة أحفاد، يستقبلون ثالث رمضان، بينما السيدة وزوجها المهندس حسام خلف في السجن.
هناك أيضًا سولافة مجدي، الصحافية الشابة، التي انتزعت وزوجها من طفلهما الوحيد، وألقيا في السجن، تاركين الصغير يلاحق الجميع بالسؤال عن مكان والديه، ولا يحصل على إجابة.
من لم تترك أبناء وأحفادًا، تركت آباء وأمهات وأشقاء وشقيقات، يفطرون على الحزن والكمد، ففي القائمة كذلك إسراء عبد الفتاح، ناشطة سياسية ومحرّرة صحافية، وهناك المحامية ماهينور المصري، من "العفو الدولية"، وعشرات، بل ربما مئات من المسجونات والمعتقلات غير المعروفات، منسيات خلف قضبان حديد، باتهامات أثارت سخرية العالم.
يعلمنا التاريخ أنه في الحرب، و في السلم أيضًا، لا يمكن لأمةٍ تعادي رجالها ونساءها أن تنتصر على عدو بالخارج.
لقد أسمعكم رجل منكم، هو شيخ الأزهر مثل هذا الكلام قبل عامين، وهو يذكّركم بوصية نبي الرحمة في خطبة الوداع "استوصوا بالنساء خيرًا"، ويلفت عنايتكم إلى أن المجتمعات التي تستبدل بهذا المبدأ مبادئ أخرى، كالصراع والتشرذم والتفتت أو التسلط والانقضاض على مقدّرات الآخرين، لا مفر لها من الانحلال ثم السقوط.