تخاريف أدبية وسياسية
أتاح فضاء "السوشيال ميديا" مجالاً واسعاً لعرض الأفكار الصائبة، والآراء الحصيفة، بالإضافة إلى الكلام الفارغ الذي يُنشر غالباً من دون تدقيق. فإذا كان قائلُ الكلام متقدّماً بالعمر، مثل محسوبكم، سرعان ما يقال إنه أصيب بالخرف، أو الزهايمر. مثال ذلك، أن أحد المعارضين السوريين، وهو رجل عاقل ورزين، فاجأنا، قبل أيام، باقتراحٍ غريب: أن تلتقي هيئة تحرير الشام مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في ردّ فعل على التقارب المرتقب بين الدولة التركية ونظام الأسد!
على سيرة الخرف. كان عمري بضعاً وخمسين سنة، عندما مازحني كبير الشعراء الساخرين السوريين، غازي أبو عقل، ملمحاً إلى أن الخَرَف قد دبّ فيَّ. كنا، ليلتئذ، نسهر في منطقة رأس شمرا، بالقرب من مدينة اللاذقية. ونظراً إلى أنني ميّالٌ إلى طرح الأفكار الجدلية، قلت إن الكاتب يجب أن يراقب نفسه، فقد يخرّف، ويستمر بالكتابة، فيسيء بذلك إلى تاريخه. ورحتُ أنوّع على الفكرة، فأضفت: ولكن الخرفان لا يدري بنفسه، ما يوجِب على أهله وأصدقائه أن يوقفوه. لم يدعني غازي أسترسلُ في الشرح أكثر؛ قاطعني قائلاً: "أخي خطيب. أنت توقف من الآن.. شو بدّك بغيرك؟".
مع مرور الأيام، صرت ألاحظ أن الخرف ليس شأناً خاصّاً بالأشخاص الذين يعانون من نقص ترويةٍ في الدماغ بسبب العمر، بل إننا نصادف، في بعض الأحيان، خرفانين في ميعة الصبا. تضايقتُ، ذات مرّة، من أفكار طرحها زوج إحدى قريباتي، ولم أشأ أن أجادله فيها، كيلا أحرجه. وخلال السهرة اتصلت بعديله، وهو صديقي، سألته: كأنّ عديلك خرفان؟ فضحك وقال لي: ابنُه الصغير خرفان! المهم أننا قد لا ننتبه إلى ما يقوله أحد المخرّفين في حينه، لأن كلامه ليس خالياً من المنطق تماماً، كأنْ يقول لك، بعد أن يطلق زفرة طويلة: إيه. نصف الألف خمسمائة .. ويقول آخر، بمنتهى الجدّية: بصراحة؟ ربنا كبير. وقد يكون الذي يحاورك مثقفاً، فيُتحفك ببيت شعر لحسّان بن ثابت، إذا جرّدتَه من الوزن والقافية يصبح معناه أن الإنسان مهما امتد به العمر سيموت! وأحياناً، وأنت تتفرّج على مباراة بكرة القدم، مشدوداً، مستغرقاً في متابعة حركة الكرة بين أقدام اللاعبين، تسمع المعلق الرياضي يقول إن حارس المرمى هو اللاعب الوحيد الذي يحقّ له أن يلمس الكرة بيده. والغريب أنك لا تندهش من هذا القول، لأنه صحيح بالفعل، ولكن ما فائدته؟ ومن معلومات قيّمة أورثها عدنان بوظو للمعلّقين (بالقاف، لا بالكاف) الرياضيين السوريين، أن حَكَم الساحة هو الميقاتي الوحيد في المباراة. وأنت، في هذه الحالة، ستأخذ كلامه مأخذ الجد، بل قد تتبنّاه، وتخبر به أصدقاءك في وقت آخر، مع أنه لم يصادف أن قرّر أحدُ الحاضرين في الملعب، كالمعالج الفيزيائي، أو مدرب أحد الفريقين، أو الفتى الذي يناول الكرات للاعبين، أو واحد من الجمهور، أن ينهي المباراة بدلاً من الحكم.
يتجلّى الخرف أحياناً في محاولة بعض جهابذة "السوشيال ميديا" تطبيق الحِكم والأمثال التي تقال للأشخاص على الدول، فإذا قلت إن الأفضل للدول العربية أن تتحرّر من الأوهام البعثية والناصرية التي تريد لَمّ الشامي على المغربي، ينبري لك واحد يقول: في الاتحاد قوّة، والرماح إذا اجتمعن يأبين تكسّراً. فلو توقفت قليلاً عند هذا الكلام، ستقول إن الاتحاد غير ممكن، وبالأخص بين الدول المتخلفة، ذات التعدّدية الدينية والقومية والمذهبية المتناحرة، ويحكمها، إضافة إلى ذلك، رجال مستبدّون ومتهوّرون في الوقت ذاته، والرمح لا يمكن تكسيره إذا كان صلباً، والرماح المجتمعة يفرمها المنشار الكهربائي بسهولة.
إذا عدنا إلى فكرة اتحاد هيئة تحرير الشام و"قسد"، سنكتشف هشاشتها بسرعة، لأن مشروعية "قسد"، أساساً، والدعم الذي تتلقّاه من الأميركان، يقومان على أنها تحارب "داعش" وهيئة تحرير الشام.