تخبرنا غزّة
تتصارع رؤيتان وروايتان حول طبيعة أنظمة ما بعد الاستعمار في الوطن العربي. وكلاء للاستعمار الذي طوّر أدواته، وأعاد إنتاج نفسه من خلال أشكال مختلفة من الهيمنة، يلزمها وكلاء محليون، أم أنظمة وطنية، لها وعليها، لديها مشروعاتها لصالح بلادها، طمح بعضُها في الاستقلال، وخضع آخرون لإكراهات الواقع، من دون "عمالة" أو خيانة لقضية بلاده، وحاولوا قدر الممكن، وتحرّكوا في هوامش المتاح. وفي تقديري، تحمل تواريخ الأقطار العربية، منذ منتصف القرن الماضي، على ظهورها تجارب متنوعة، يمكننا إدراج أكثرها، من دون تعسّف، في الخانة الأولى، وبعضها الآخر في الثانية، أو بالقرب منها، فإذا تجاوزنا التاريخ إلى واقعنا فنحن أمام رواية غزّة، وامتحانها الذي لم ينجح فيه أحد، نظرا إلى طبيعة الأنظمة العربية الحالية التي لا تسمح لها أن تتقدّم خطوة واحدة في اتجاه غزّة، وإنقاذ أهلها من الإبادة، فهي أنظمة احتلال محلّي، لا وجود لها سوى بدعم المحتل الأميركي وذراعه الاستعماري إسرائيل. ولا يعني ثبوت تحرّك هذه الأنظمة في بعض الملفات الداخلية محليا وإقليميا، من دون الإذن الأميركي، أو بالتجاوز المدروس له، سوى وعيها، نتيجة تراكم خبراتها، بالهوامش المتاحة، وقدرتها على استغلالها، وتسويقها محليا بوصفها تعبيرا عن إرادة مستقلّة متخيلة. هنا، والآن، غزّة، حيث مرآة الأنظمة العربية الحقيقية، وصورتها بالحجم الطبيعي، والوزن الحقيقي، الذي لا يسمح لها بمجرّد التفكير في تجاوز خطوط "السيد" الأميركي، صانع هذه الأنظمة الحقيقي ومالكها، هذا على افتراض أنها تريد.
تختلف عملية 7 أكتوبر عن سابقاتها. من هنا يختلف دعم الصهاينة العرب حليفتهم إسرائيل، في الدرجة لا النوع، عن المرّات السابقة. لا يكتفي حكام العرب بالفرجة، أو إصدار البيانات الساكتة، أو إغلاق النظام المصري معبر رفح، ودعم بقية الأنظمة العربية مصر في إجراءاتها (في بيان قمّة الرياض)، ومن ثم دعم إغلاق المنفذ الوحيد أمام أهل غزّة، والمشاركة العربية "رسميا" في حصارها. يتجاوز الدعم العربي مجرّد "بيع" القضية، المعتاد، إلى خدمات ما بعد البيع. حصار الجماهير العربية في الداخل ومنعها من كل أشكال دعم غزّة، وقمع المظاهرات المتضامنة مع الفلسطينيين، على رمزيّتها، وقصف المقاومة إعلاميا، بالتوازي مع قصف غزّة اليومي، وبالقوة نفسها، والتوحّش نفسه، وبوضوح، ومن دون التفاف أو استخدام لغة مراوغة، اللهم إلا التخفّي خلف لافتات حماية الفلسطينيين من المقاومة الإخوانية! فالمقاومة ليست غزّة، وغزّة ليست المقاومة، وليست "حماس"، التي هي أكثر ضررا على الفلسطينيين من الحليفة إسرائيل، الخطاب الذي لم نسمعه من أهل غزّة أنفسهم، ضحايا القصف، والإبادة، والحصار، وقتل الأطفال، وهولوكوست المشافي، إلا أن إعلام المحتلّ المحلّي أكثر معرفة بغزّة من أهلها، وبأهلها منهم. لم تعُد المقاومة ردّ الفعل البديهي تجاه سياسات الاحتلال والفصل العنصري، إنما الحرب بالوكالة عن إيران، والتخديم على مشروعها التوسّعي، الذي هو أخطر من إسرائيل. وفي مستوياتٍ أكثر رداءة، على مواقع التواصل الاجتماعي، جرى استدعاء الخطاب الطائفي، فتحولت المقاومة إلى حليفة شاتمي الصحابة وأمّهات المؤمنين، ناهيك عن المزايدات على المقاومين أنفسهم، سواء في الداخل، الذين يحملون السلاح ويقدّمون أرواحهم، أو المهجّرين قسريا في الخارج.
هل انتهينا؟ لا طبعا، فمصالح المحتل المحلي أكثر ارتباطاً، ووثاقة، بالمحتل الأميركي من مجرّد الدفاع عن إسرائيل وتجريم مقاوميها، ولا تتوقّف عند حدود الحفاظ على استمراره على كرسيّه، رغم أنف مواطنيه، بل تتجاوز إلى مصالح الشركات الأميركية في المنطقة. من هنا، جرى تجريم المقاطعة الاقتصادية لمنتجات العدو، التي تمثل إحدى أهم أدواته للهيمنة، والحديث المتواصل عن المقاومين بالمقاطعة، (أضعف الإيمان)، بوصفهم قاطعي أرزاق الموظّفين "الغلابة" من العرب الذين لن يجدوا وظيفة أخرى، كأن فتح المساحات المغلقة بفعل المحتلّ المحلي، أمام المنتج الوطني لن يفتح أبواب الرزق على مصاريعها، أمام هؤلاء الموظفين الذين شارك بعضهم بالفعل في التشجيع على المقاطعة، وفق مشاهدات وتجارب كثيرين، منهم كاتب السطور.