تساؤلات بشأن هجوم كروكوس في روسيا
لم تمضِ ساعات على الهجوم الذي استهدف حفلاً موسيقياً في صالة حفلات في ضاحية كروكوس شمال غربي موسكو، حتى انهالت وسائل الإعلام الروسية وشخصيات سياسية رسمية بالتلميح إلى دور أوكراني في الهجوم، متجاهلين إعلان تنظيم الدولة ـ ولاية خراسان مسؤوليته عن الهجوم. بعد نحو ثلاث ساعات من الهجوم، أكد الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي ديميتري مدفيديف، أن موسكو ستقضي على القادة الأوكرانيين إذا تبيّن أنهم مسؤولون عن الهجوم الدامي. وفي صباح اليوم التالي قالت أجهزة الأمن الروسية إن المشتبه فيهم بالهجوم كانت لديهم جهات اتصال في أوكرانيا إلى حيث كانوا يعتزمون الفرار. ولم يتطرق الرئيس فلاديمير بوتين في كلمة له عصر اليوم ذاته إلى بيان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بقدر ما حاول توجيه الأنظار نحو أوكرانيا واحتمالية مسؤوليتها عن الهجوم، على أثر اعتقال السلطات الروسية أربعة أشخاص من منفذي الهجوم قرب الحدود مع أوكرانيا التي كانوا ينوون التوجّه إليها. وبعد يومين من الهجوم، أخذ الخطاب الرسمي الروسي يأخذ صيغة معتدلة، بالحديث عن أن منفّذي الهجوم ينتمون إلى جماعات إسلامية راديكالية، وأن من المبكر التعليق على بيان "التنظيم" قبل انتهاء التحقيقات، وأنه يجب الإجابة عن السؤال: لماذا توجّه أربعة عناصر من الجناة نحو أوكرانيا؟
قد يكون للإصرار الروسي على التركيز على أوكرانيا دوافع سياسية وعسكرية بتصويرها جهةً تقوم بفعل إرهابي ضد مدنيين، كحجة للقيام بعمل عسكري أو توجيه ضربة عسكرية ذات نمط مختلف عن السائد منذ بداية الحرب في أوكرانيا. وفي المقابل، قد يكون الإصرار الروسي هذا نابعاً من فشل استخباراتي ومن ضعف نظر سياسي لدى صنّاع القرار في الكرملين حيال واقع المسلمين داخل روسيا بشكل عام، وواقع الحركات الإسلامية الراديكالية بشكل خاص في المحيط الجغرافي الجنوبي لروسيا (أفغانستان، طاجيكستان). والأهم من ذلك، قد يكون هذا الإصرار الروسي على توجيه الاتهامات نحو كييف نابعاً من فشل ذريع في قراءة الواقع الأمني في البلاد الذي يخالف السردية التي طالما تحدّث بها بوتين عن قوة روسيا ومتانة اقتصادها واستقرارها الأمني الداخلي. غير أن الأسئلة التي بدأت القيادة الروسية تطرحها عن تفاصيل الهجوم، قد تكون السبب الذي جعل الكرملين يُعقلن خطابه حيال الهجوم: كيف استطاع الجناة قطع نحو ثلاثة آلاف كيلومتر من طاجيكستان إلى موسكو؟ وهل كانوا يحملون الأسلحة معهم من بلدهم، أم تسلّموها داخل الأراضي الروسية؟ في الحالتين، نحن أمام فشل أمني فاضح.
العداء الإسلامي الراديكالي لروسيا تنامى بسبب حربها إلى جانب النظام السوري، وملاحقتها التنظيمات الراديكالية في الداخل السوري
كيف استطاع المهاجمون، بعددهم الصغير، الدخول إلى القاعة بهذه السهولة؟ وتنفيذ عملية القتل الجماعي ببرودة أعصاب، كما أظهرت مقاطع الفيديو، وكأنهم مطمئنون إلى عدم وجود من يردعهم أو يواجههم بالسلاح؟ ثم كيف غادروا المكان ونجحوا في مغادرة موسكو؟ من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة، لكنها جميعاً تكشف الخلل الأمني الداخلي، بل وربما كشفت ما هو أبعد، حيث يمكن الحديث عن خلايا تنشط داخل الأراضي الروسية مع وجود ملايين من المسلمين من دول الجوار يعملون داخل الاتحاد الروسي.
العلاقة بين روسيا والعالم الإسلامي جيّدة جداً بشكل عام، لوقوف روسيا إلى جانب القضية الفلسطينية، لكن العداء الإسلامي الراديكالي لروسيا تنامى بسبب حربها إلى جانب النظام السوري، وملاحقتها التنظيمات الراديكالية في الداخل السوري، ثم التحالف الأمني مع دول أفريقية سمح لروسيا بشنّ عمليات عسكرية وأمنية في عمق القارّة الأفريقية ضد التنظيمات الإسلامية، وخصوصاً في مالي ومحيطها.
ترافق هذا العداء الإسلامي الراديكالي منذ سنوات مع تغييرات تنظيمية حصلت داخل تنظيم الدولة الإسلامية، أهمها دمج مكتب المسؤول عن ولاية خراسان (أفغانستان) والدول الحدودية وكذلك ولاية شرق آسيا (الفيليبين وإندونيسيا والهند وباكستان) مع مكتب الفاروق المسؤول جغرافياً عن تركيا والدول الحدودية معها والقريبة منها والقوقاز وروسيا، وتكليف شهاب المهاجر (المعروف أيضاً باسم ثناء الله غفاري) مسؤولية المكتب بمنصب أمير، إضافة إلى مسؤوليته عن "تنظيم خراسان".
عودة فعالية تنظيم الدولة الإسلامية في المحيط الروسي
هل يمكن القول إن القيادة الروسية لم تأخذ بالاعتبار هذا المتغيّر المتعلق بالتنظيم، وكذلك تنامي ظاهرة التطرّف الإسلامي في المحيط الجنوبي لروسيا؟ أغلب الظن أن موسكو على علم بكل هذه المتغيرات، وهي لها باعٌ كبير في التعامل مع الإسلاميين بدءاً من الشيشان وانتهاءً بأفغانستان، مروراً بسورية والعراق وأفريقيا وطاجيكستان، وهذا واضح من عمليات الاعتقال التي تقوم بها القوات الأمنية الروسية بين الفينة والأخرى، والدعم الأمني الذي تقدّمه إلى طاجيكستان في ملاحقة المشبوهين، كذلك ظهر هذا الاهتمام في خطاب بوتين قبل أشهر، عندما تحدّث عن حالة التنوع في روسيا، مخففاً من حدّة الخطاب القومي السابق.
بناءً على هذه المعطيات، لا يمكن إدراج هجوم قاعة كروكوس ضمن الفشل الأمني، فهذا الفشل عبارة فضفاضة لا تعكس واقع الحال، إذ قد يحدث الفشل في كل الدول، والأصحّ القول إن ما حدث تعبير عن خلل أمني وعسكري عميق، هل علينا التذكير بكثرة هذه الحوادث في روسيا خلال الألفية الحالية؟ وهل علينا التذكير بما حدث العام الماضي، عندما فوجئ الكرملين بسيطرة قوات "فاغنر" على مناطق داخل روسيا، وقطعها مئات الكيلومترات؟
الخلل الأمني والضعف العسكري الروسي مترافق مع ظاهرة عودة فعالية تنظيم الدولة الإسلامية في المحيط الروسي، والحرب الأميركية الروسية غير المباشرة، كلها قد تحوّل الساحة الروسية الداخلية إلى ساحة للصراع الإقليمي الدولي.