تعليم الأنثى في دين روسّو الاجتماعي
حين يصل جان جاك روسّو الى الفصل المتعلق بالدين في حياة الفتاة، تنفجر قريحته وتتوالى نظرياته، وتشتبك للغاية وبصورة معقدة، حين تنظر إليها من زاوية الدين الإيماني، أو الدين العقائدي، لكنّها تترتب لديك فقط حين تفهم فلسفة روسّو في الدين الاجتماعي، مشكلة روسّو العميقة أو تميّزه، كما يراها آخرون، أنه ثائر بقوة ضد دين الكنيسة، مزدرياً لها، مهاجماً منهجها، ليس في رابطتها مع الملكية والقمع وحسب، بل حتى في بعث الرسالة الروحية للذات المسيحية.
وهو هنا يركّز على المسيحية المتداخلة مع حياة الشعب، في فرنسا وسويسرا وبقية الغرب، وهو اشتباك عميق لا يزال أثره حاضراً في الغرب، فهو الدين الذي أقصي من الحياة العامة، بعد عهود التنوير، لكنه لم يسقُط قط من الهوية الاجتماعية التاريخية للغرب، ولم يتراجع في منزلته في تصدير الفوقية الغربية، حتى لو بدت السياسة الأوروبية أو الأميركية الشمالية علمانية، بل حتى لو كان الطاقم ملحداً، في ارتباط الذات الاجتماعية الفردية بالدين القومي التاريخي المسيحي. وهي حالة يهودية أخضعت للتفكيك الفلسفي في منظومة الرؤية الشرقية، للمسألة اليهودية، أحسبُ أنها مهمة جداً في الحالة المسيحية الغربية أيضاً، منذ عهد التنوير القديم، إلى عهد تنوير الحداثة اليسارية المستأصلة للروح، ونظيرها اليميني المسيحي المتطرّف على الجبهة الأخرى. وهذا منحىً يحتاج تفصيلاً أوسع، فبابه مهم وكبير، لكننا نقصر الحديث عنه هنا، في عمق تفكير روسّو لننطلق في تحديد رؤيته للدين الاجتماعي، وعلاقته بتربية الأطفال، فهذا ما يخرج للباحث في حصيلة قراءة تعاليم روسّو، التي حرّرها عن التعليم الديني للفتيات، في مسار تأهيل الزوجة الافتراضية المرشّحة لإميل وهي صوفي. فروسّو يندفع بقوة نحو وضع الفتاة في برنامج تأهيل اجتماعي، يحقّق لها، في النهاية، توازناً لصالح حياتها المطمئنة حسب تقديره، في كنف الزوج القوي المحبّ لها، ولكن أيضا مع خضوع الفتاة لمجمل الأعراف الأنثوية في المجتمع، وهو يحتج بذلك بأن السلطة، وهنا يشير الى سلطة اجتماعية، هي التي تحكم على حياة الفتاة ونجاحها، فيما لدى الرجل مساحة لجعل الرأي العام يحكم عليه، وهو وإن لام هذه السلطة مندمجٌ معها بالمجمل في شروط تأهيل الفتاة ومستقبلها كزوجة، فالبيت الأُسري لدى روسّو هو المعقل الأخير، الذي يُقاس عليه هذا النجاح.
يطرح روسّو الدين الاجتماعي، لا الكنسي، وهو دين يُقرّ بالله الخالق
ورغم استدراكاته المتكرّرة أنه لا يُلزِم بوضع الفتاة تحت إطار حصري محدّد من التعليم والعمل، يرفض بشدة إخراج الأنثى عن مساحة حياتها الطبيعية، ويصف الدعوات الأوروبية إلى تكليف المرأة بواجبات الرجل بأنها إخلال في شروط الطبيعة، وأن الحصيلة أن المرأة تقوم بواجباتها الطبيعية، وواجبات الرجل فيثقل عليها الحمل فتُظلم، وقد تسقُط في منتصف الطريق.
ولذلك يعود إلى الاستطراد في مراعاة العرف العام، ويؤكّد على معنى العفّة والفضيلة، وأن الجمال ليس هو المعيار الأخير، ويجدول للفتاة حياة تربوية تشمل التدبير والتطريز، وأدب الحديث وذوق التعامل، لتأخذ حقّها وموقعها في المجتمع والحياة الزوجية، رغم أنّهُ يُذكّر بأنّ سلطة المجتمع ليست عادلة بالضرورة. ولذلك اعتبرنا أنّ روسّو يطرح الدين الاجتماعي، لا الكنسي، وهو دين يُقرّ بالله الخالق، وبأهمية التعلق الروحي به، وأنّهُ سر الخلق وموجده كقاعدة إيمان في ضمير الفتاة، في حين يرفض بشدّة طريقة المواعظ الكنسية وإغراق الفتاة بالطقوس والتعاليم المذهبية المسيحية، في إشارةً إلى مسالك الصراع بين البروتستانت والكاثوليك، كما أنهُ يؤكّد على أهمية اختصار المواعظ، ويقول هذا ما أوصانا به السيد المسيح، وهنا روسّو يتداخل لديه الدين الروحي بالدين الاجتماعي الذي يدعو إليه.
وفي حين يستطرد روسّو في تحديد لغة التعليم الديني للفتيات، يؤكّد على أن التعامل التربوي أكثر خصوصية، منه للفتيان، مبرّراً تكثيفه في هذا المسار، رافضاً أن تُلقّن العقائد بناءً على ألفاظ تسأل الفتاة عن ربها، ويقول إن إدراك الخلق والفطرة هو أقوى من التلقين والحفظ، وأن الإيمان العفوي أرسخ من مدارس الأديرة التي تؤدّي بالشباب الى الزندقة (إنكار الدين) أو التعصّب، وهنا يفهم منهج روسّو في صناعة الدين الاجتماعي البديل.
لم تتهذب المادية لصالح معادلة روسو، ولم تؤمن بدين اجتماعي ولا بغيره
لكن ليس لهذا الدين الاجتماعي اليوم قوة في حماية الإنسان من تغوّل التوحش المادي الذي ضرب الغرب، كما أن الاتجاه الكنسي العام أُخضع لمتطلبات العلمانية الاستئصالية الجديدة، وحصلت تنازلاتٌ كبرى في قيم الروح والأسرة، لكن هوية الكنيسة بقيت حاضرة في أرض الغرب.
وفي الوقت ذاته، لم تتهذّب المادية لصالح معادلة روسّو، ولم تؤمن بدينٍ اجتماعي ولا بغيره، ونحن نقصد الدين الذي يؤكّد وجود الله الخالق ومصالح فطرته في خلقه، والذي ظلّ روسّو يتمسّك به، فقد أقصت الحداثة المادوية الشرسة كل أفقٍ يهدي لهذه الروح، وفشل مذهب روسّو في وقاية الغرب منه، وإن تأثرت بخطابه شخصيات وكوادر مسيحية من الطرفين في أوروبا، وفي بقية العالم أيضاً.
ورغم أنّ روسّو طرح منظومة تفكير تزرع الإيمان بالله عند الفتيات، وكانت ملاحظاته على فقدان التعليم الروحي بالقدوة، مسلكاً يشمل المسيحيين وغيرهم، في الفارق بين خطاب الوعظ الذي يُسقط نموذجه الأخلاقي، ويتعسّف على الإنسان بقهره الديني، وبين أن تشرق شمس الحقيقة الإيمانية في ضمير الشباب، إلا أن روسّو غاب عنه إرثٌ ضخم من البلاغ الروحي والعمراني، لا يمكن للبشرية أن تنجح من دونه. فالوحي عماد الدين في رحلة الإنسان في الأرض، وفي ذاته، يقوم على ذلك العلم الذي لا يمكن أن يحصله بشر، ولا أن يعوّضه أي دين اجتماعي يوضع بديلاً له، وأزمة الإنسانية فيمن قطع الطريق عن هذا البعث، والذي حمله الإسلام في حقيقته، ونقضه بعض من خاطب الناس باسمه وقهرهم بسيف مصالحه، ففرّوا من الدين، وهم يبحثون عن الله.