تعليم المستقبل والذكاء السالب للذكاء
كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي، حتّى كاد يكون حديثَ الساعة. ولا يعتقد كاتب هذه السطور أنّ هذا الذكاء مُنتهَى التكنولوجيا وتطوّرها، إذ لا يزال يُؤثّر في مجالات كثيرة ويوجّهها ويُغيّرها ويُعمّقها. وقد يكون التعليم من أكثر المجالات استفادةً من التكنولوجيا عموماً، ومن الذكاء الاصطناعي خصوصاً، ولسوف يكون الأثر أكثر عُمقاً في المستقبل. وإذا كان التعليم من أولويات التنمية المُستدامة، ومن أكثرها إلحاحاً، بعد الصحّة والغذاء، فإنّه يُعَدُّ من أعظم الاستثمارات في حياة الفرد، وفي مستقبل الجماعات والأمم، فكيف تبقى التكنولوجيا عموماً، والذكاء الاصطناعي خصوصاً، رافعةً للتعليم في المستقبل؟
لا يخشى الكاتب على التكنولوجيا، وطبعاً لا يخشى التكنولوجيا. ولا يشكّ في مآثرها، وفي دورها في تطوير التعليم، وجعله مُبتكراً ومُتميّزاً ومواكباً، لكن تساوره مخاوفُ جمَّة بشأن استعمالاتها، وبالأساس الذكاء الاصطناعي، فهل هو، في المطلق، حاضن وداعم ورافع للذكاء البشري؟... هذا فيه كلام وآراء. ويبدو أنّه لا يمكن الإطلاق هنا، خاصّة أنّنا نرى فقدان كثير من القدرات لدى عموم الناس، أو في الأقلّ نقصٌ وتراجعٌ في كثير منها، ابتداءً من الخطّ والكتابة، إلى الكتابة السليمة من الأخطاء، وصولاً إلى الخطر على الأمانتين، العلمية والأدبية، لما يظهر من استعمالات للذكاء الاصطناعي في البحوث العلمية، وحتّى في الشعر والرواية. لهذا، يبدو جانب الأخلاق موضوعاً في غاية الجِدّية في هذا المجال عموماً. نتحدّث هنا عن الأخلاق ببُعدِها الحضاري والقيمي والجمعي، وليس في جانبها الديني الضيّق. وحتّى نتجنب أو في الأقلّ نحد من هذه التأثيرات السلبية، وجب التذكير وتأكيد أنّ الإنسان يبقى هو المركز والجوهر بالعقل والحكمة.
لسنا قادرين (ولا مُخوّلين) على التفكير في مستقبل الأجيال القادمة نيابةً عنهم، رغم أنّه علينا أن نحمل هموم مستقبلهم
نحن نريد ذكاءً اصطناعياً رافعاً للذكاء البشري، وليس سالباً له. فيا خيبة المسعى، لو أدّى بنا تطوّر الأول إلى تقهقر الثاني أو اندثاره! نريد في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسّساتنا ومجتمعنا أفراداً يمتلكون التكنولوجيا ومطوّعين لها لغاية تنمية البلاد وخير الشعوب، وليس أفراداً متواكلين على التكنولوجيا لأبسط حاجياتهم، أو عاجزين مُتبلِّدي العقول، متكاسلي الأجسام، ذوي أذهانٍ متكلّسةٍ، وأجسامٍ متثاقلةٍ خاملة.
شهد التعليم في العقدَين الأخيرَين تطوّراً كبيراً ومتسارعاً، وسيشهد موجاتٍ من التطوّر في المستقبل. ولن يزيد الذكاء الاصطناعي خطواته إلّا جدّية واستحثاثاً وتسارعاً. ومن نافلة القول هنا إنّه وجب التذكير بأهمّية بعض أعمدة نجاح التعليم للمستقبل، ونخصّ بالذكر والتذكير المهارات الليّنة (Soft Skills)، وريادة الأعمال، وانفتاح الجامعة والمدرسة على المجتمع والمحيط والمؤسّسة. في أغلب الدول العربية، لا يخدم التعليمُ واقعَ المجتمع. فهو لا يزال تقليديّاً وتلقينيّاً، وفي أفضل الحالات، أكاديميّاً يطغى عليه البعد النظري. لهذا يضطر الطالب بعد الانتهاء من دراسته الجامعية إلى التدرّب بعد التخرّج، كي يكون له الحدّ الأدنى من المهارات لخوض تجربةِ عملٍ أولى. ولا غرابة في عدم وجود صادرات عربية في المعلومات والتكنولوجيا، أو تكاد. ومنه وجب التركيز على التعليم الريادي، تعليمٌ يركّز على مهارات الحياة، تماماً كما يُركّز على المعارف والعلوم، ويكون نقديّاً وخلّاقاً، يُنمّي لدى الطالب مَلَكات الابتكار والاختراع.
من الضروري تأكيد أنّ لشعوبنا خزّاناً ليس عند كثيرين غيرها. ويمكن لهذا الخزّان أن يرعى مهارات كثيرة ويثبّتها وينمّيها، وهو خزّان الأسرة
يطول الحديث عن المهارات الليّنة، لكن من الضروري تأكيد أنّ لشعوبنا خزّاناً ليس عند كثيرين غيرها. ويمكن لهذا الخزّان أن يرعى مهارات كثيرة ويثبّتها وينمّيها، وهو خزّان الأسرة، فللوالدين مثلاً دورٌ عظيم في هذا الشأن، وكما يقال التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فمن الضرورة بمكان أن يتجذَّر النشء في هُويَّته، وينهل من عمقها ومكارمها. وإلّا فلا مهارات ولا كفاءات مناسبة للواقع. أيضاً، لن يتردّد كاتب هذه السطور في إعادة تأكيد ضرورة أن يكون للغة العربية مكانها في الكفاءات والمهارات، وهذا سبيل الأمم كلّها، فلا مستقبلَ لأمَّة تدرس بلغة غيرها، وغير مُتجذِّرة في عمقها الحضاري، وغير مُعتزَّة بهُويَّتها. فأصلاً لن تجد الحلول لمشكلاتها، ولن تُغيّر نحو الأفضل واقعها، إذا لم تستجب له بالحلول الكفيلة النابعة من خصوصيّاتها. فانفتاح الجامعة ومراكز الأبحاث مثلاً على المجتمع لا يعني خروج الباحثين والأكاديميين من مكاتبهم ومختبراتهم المغلقة، ونزولهم من أبراجهم العاجية، فقط، وليس خروج أصحاب المصانع والمؤسّسات من عزلتهم فقط، فبالإضافة إلى ضرورة خروج هؤلاء وهؤلاء خارج الأسوار، وضرورة الاعتراف والتحاور والتعاون والعمل المشترك، وجب التنبيه إلى مسألةٍ بالغةِ الأهمّيةِ لعلاقتها بخصوصيَّتنا وثقافتنا، وهُويَّتنا. فكثير من الذين يتحدّثون عن ريادة الأعمال يقتصرون على إكساب الطلاب مهاراتٍ تسهّل لهم الحصول على الشغل، ودخول سوق العمل بسلاسة. هذا جيّدٌ ومُهمٌّ وضروريٌّ، لكنّ ثقافتنا العربية الإسلامية تُحتِّم علينا أيضاً، الاهتمام بالأفكار والفنون والأخلاق، وغيرها من القيم. نافلة القول إنّ الانفتاح على المجتمع والمحيط والمؤسّسة لا يقتصر على الجانب الاقتصادي، وبشكل حصري كما يعتقد كثيرون، بل يتعدَّاه إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية، والدينية، والبيئية، وغيرها. فحاجتنا لا تتوقّف عند تكوين طلّاب سيذهبون إلى سوق الشغل سواعدَ أو عقولَ إنتاج، فمجتمعاتنا العربيّة في حاجة أيضاً، إلى الفنّان والفيلسوف والمُؤرِّخ والداعية والمُثقَّف وغيرهم.
في الحديث عن المستقبل، فالظنّ أننا غير قادرين على استشراف واقع التعليم والتكنولوجيا في أفق 2024 مثلاً، وذلك في الأقلّ لسببَين. أولهما أنّنا في واقعٍ متغيّرٍ جدّاً، وبشكل متسارع، قد يصل التنبؤ فيه ليكون ضرباً من التنجيم. وثانيهما، أنّنا لسنا قادرين (ولا مُخوّلين) على التفكير في مستقبل شباب الأجيال القادمة نيابةً عنهم، رغم أنّه علينا، بمنطق الاستدامة، أن نحمل هموم مستقبلهم، وأن نترك لهم عالماً أكثر استدامةً، أو في الأقلّ عالماً أكثر قابليةً للحياة. فإذا كانت التغيّراتُ التي عشناها في السنوات القليلة الماضية جدَّ حثيثة، فستكون أكثر تسارعاً وعجلة في العقود المُقبلة. وإذا نظرنا إلى الماضي القريب، في بداية هذا القرن الواحد والعشرين مثلاً، فليس هناك، ربّما، من يتوقّع حدوثَ جائحةٍ ككورونا، وحتّى إذا توقّعت بعض أفلام الخيال العلمي أشياءَ من هذا القبيل، فهي لم تتجاوز المتعة والإثارة، والدليل أنْ لا أحدَ استعدَّ لمثل هذه الكارثة الإنسانية. وحتّى المنظّمة العالمية للصحّة في الأمم المتّحدة، لم تدهشنا بشيء غير عجزها الصادم عن فعل أيّ شيء.
يبقى التعليم من أكبر الاستثمارات وأعظمها وأدومها. ويجب أولاً أن يكون الطالب مِحوَر العملية التعليمية
لكنّ عدم قدرتنا على استشراف مستقبل التعليم والتكنولوجيا لا يعفينا من التفكير مليّاً، وبعمقٍ، في كثيرٍ من الأشياء، فالتعليم يبقى من أكبر الاستثمارات وأعظمها وأدومها. ولبلوغ الغايات وتحقيق أفضل المآلات في دولنا العربية، وَجَب أولاً، وقبل كلّ شيء، أن يكون الطالب مِحوَر العملية التعليمية، يجب أن يُعتبَر حقّاً قلب الرحى ومربط الفرس. لأنّه، مع الأسف، في دولنا العربية عادةً، عندما تثار مسائل التعليم ومستقبله وتطويره، سرعان ما يزيغ الحديث، وينحرف التفكير، عن الجوهر، ويستبدل به جدلٌ عن وضع المُدرِّسين والنقابات والوزارات وغيرها... وتغلب مصالحُ هؤلاء فُرادى أو مجتمعين مصلحةَ الطالب، الذي هو هدفُ العملية التعليمية قاطبةً ونقطةُ ارتكازها، ومحورها وصميمها وكُنْهُها. أيضاً من الضرورة بمكان أن يتميّز التعليم اليوم بتنمية الحسّ النقدي لدى النشء، وزرع الفضول لديهم، والرغبةَ في تعلّم المزيد. فالتركيز على التعليم الشخصي أو التعليم الذاتي أصبح اليوم حاجةً مُلحّةً، إذ لا بدّ أن يكون الطالب قادراً على الأخذ بيده حتّى يواصل عملية التعليم في الظروف كلّها. فأزمة كورونا أثبتت أنّه قد يستحيل (في ظروف استثنائية يمكن أن تمتد أشهراً أو سنواتٍ) مواصلة عملية التعليم، إلّا إذا أخذ بيد الطالب، وكان مُستعدّاً للتعلّم الذاتي. هذا علاوة على ظروف الحروب والأزمات والصراعات، التي تطغى منذ سنوات عديدة في رقعة كبيرة من الوطن العربي. حال كارثي باتت فيه كثير من المدارس والجامعات والمعاهد ثكناتٍ أو مواقعَ يتحصّن فيها محاربون. في المدرسة التي كان يرتادها طالبٌ، سلاحُه قلم رصاص يخطئ ويصيب، وعندما يُخطئ يمحو خطأه ويصوّبه، أصبح يتحصّن فيها مقاتلٌ سلاحُه بندقيته، يُطلق الرصاص، يصوّب ليقتل. لا يُخطئ التصويب، ولا يمكنه أن يمحو أثر خطئه.