تغيّراتٌ في مسار حرب بوتين

11 اغسطس 2024

لافتة "كورسك من أجلكم" بمنطقة كورسك الروسية قرب الحدود مع أوكرانيا (26/5/2023 فرانس برس)

+ الخط -

أكثر من 900 يوم مرّت على الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت المراهنة على الطقس واردةً في حسم المعركة، ولكنّ السجال في أول سنتَين بقي يراوح بين تقدّم روسي وتسليح غربي لأوكرانيا، ثمّ تراجعٍ روسيّ وارتباكٍ، قبل إعادة رصّ الصفوف لمعاودة التقدّم، ويكاد جو بايدن يُغادر البيت الأبيض، والمعركة في تخوم أوروبا الغربية مُشتعلة، فحتّى عندما انتقل الحدث الأوكراني إلى خبر ثانوي في النشرات، بعد أن اندلعت الحرب في غزّة، وارتفع صوت قعقعة السلاح في الإقليم المجاور، بقيت المعارك في الشمال على حدّتها المعتادة. شغلت هذه الحرب روسيا، ما جعل تأثيرها ينحسر في بعض المناطق الأخرى، وأجبر الفراغ الذي تركته روسيا للصين للتمدّد (ساهمت نهضة الصين الاقتصادية وسياستها القريبة من الواقع بزيادة تمدّدها، فاحتلت المكان الروسي في مواقع كثيرة)، على تقارب موسكو مع بكين، ومع إيران أكثر، ومحاولة كسب تركيا، للمحافظة على مصالحها في سورية.
قبل أيّام، سلّطت نشرات الأخبار العالمية الأضواء مجدّداً على الحدود الروسية الأوكرانية، مع أنباء عن خرق كبير في الجبهة، نجمَ عنه دخولُ جنودٍ أوكرانيين الأراضي الروسية بعمق يزيد على عشرة كيلومترات في محور مدينة كورسك. صمتت وسائل الإعلام الأوكرانية عن هذا الهجوم، فيما أبرزته الوسائط الروسية، وظهر بوتين غاضباً، والتقى قادة جيشه قبل أن يعاود الإعلام الروسي التقليل من قيمة الهجوم. ولكن القوات الأوكرانية، حتّى بعد مرور أيّام، ما زالت ضمن الأراضي الروسية ومتمسّكة بها، وتناور للسيطرة على الطرقات، ولتحصين وجودها، ولفتح طرق جديدة، ما يعكس تشبثاً الهدف منه البقاء فترة أطول. لا يبدو العمق الذي توجد فيه القوات الأوكرانية كبيراً، ولكنّه ثابت، ويجري الدفاع عنه، والتطلّع إلى أماكن جديدة، ومحاولة التقدّم بعمق في كورسك. ولهذه المدينة رمزية، ففيها محطّة للطاقة النووية تعتبر توأم محطة تشيرنوبيل الشهيرة، التي انفجرت عام 1986 في شمال أوكرانيا، حين كانت جزءاً من الجمهوريات السوفييتية السابقة. لكن، المحطة ذاتها لا تبدو هدفاً رئيساً للهجوم الأوكراني الحالي، فهي ليست ذات قيمة عسكرية كبيرة، والاستيلاء عليها خارج قدرات الجيش الأوكراني في الوقت الراهن، بينما الأمر كلّه مُحمَّل بالرموز والمعاني التي يريد منها الجانب الأوكراني إيصال بعض الرسائل، وإطلاق بعض قنابل الاختبار لجسّ النبض، قبل الانتقال إلى خطوة ثانية مُحتملة.
يُشكّل الهجوم محاولةً جادّةًَ أولى من نوعها تخترق فيها القوات الأوكرانية النظامية الحدود، وتندفع داخل روسيا، وهذا كان من المحرّمات التي حافظ عليها الغرب منذ بداية الحرب، فالجانب الغربي تبنَّى حرباً دفاعية، والأسلحة التي زوّد بها الجانب الأوكراني كانت بغرض الدفاع عن أوكرانيا، ولم يكن، قبل فترة قصيرة، من المسموح استخدامها للهجوم على روسيا، كذلك يُشكّل استخدام مُدرَّعات من نوع برادلي وأبرامز في الهجوم حدثاً مفاجئاً، فقد شُحنت هذه المُدرَّعات من الغرب لغرض تقوية القوات البرية الأوكرانية، وتمكينها من ممارسة دفاع أشد فعالية أمام الهجوم الروسي، وهناك أخبار عن تلقّي الجانب الأوكراني دعماً جوياً بطائرات إف 16، بعد أن خاض العالم جدلاً حول هذه الطائرات، وكافح الجانب الأوكراني بشراسة للحصول عليها، وقد حصل عليها بعد مدّة طويلة، لكن تحت عناوين الدفاع. والأمر الآخر أنّ الأوكرانيين اختاروا جبهةً للهجوم تبدو لهم أكثر رخاوة وأقلّ تسليحاً، وتبعد مسافةً جيّدةً عن الجبهات الأخرى المُشتعِلة، الأمر الذي سيجبر الجانب الروسي على نقل قوّات إضافية إلى هذه المواقع الجديدة، تلك مُؤشِّرات يستخلص منها كلّها أنّ الحرب بدأت تأخذ شكلاً مختلفاً، وقد سادت فترة من الترقّب علا فيها الحديث عن مُؤتمَر سلام، ولكن آخر مُتغيّر يمكن أن يُلغي ذلك الجدل كلّه، ليبدأ حديثٌ جديدٌ عن أراضٍ روسية مُحتلَّةٍ، وكيفية وشكل الردّ الروسي المُحتمَلَين.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية