تفويض جديد مقابل مئة جنيه
قبل تسع سنوات ويومين، وجّه الجنرال عبد الفتاح السيسي دعوة إلى الشعب المصري للتظاهر بالشوارع والميادين، لكي يقولوا للعالم إنهم يؤيدونه ويفوّضونه في فعل ما يراه من دون نقاش، لتخليص الوطن من الإرهاب، وتنميته ليكون "قدّ الدنيا".
كانت هذه الدعوة إعلانًا لحالة أبارتهايد مصرية ممتدة، واضحة آثارها على كل شيء، في جمهورية الخوف التي اخترعوا لها أخيرا اسم "الجمهورية الجديدة". لكن يبقى أوضح آثار هذه الحالة أنّ من أكثر المتحمسين لتفويض الفصل العنصري بين المعارضة والموالاة من أصبح ضحيةً لانحيازه لتلك الدعوة المجنونة.
في ردود الأفعال على دعوة السيسي لتفويضه، كان القسم الأكبر من القوى السياسية التي تسمّي نفسها مدنية، يحشد الجماهير للنزول إلى الميادين، لإعلان عسكرة الدولة المصرية، وشطب العمل السياسي من قاموس المصريين، وإسناد كل شيء للجيش والشرطة، لكي تحيا مصر.
تمتلئ ذاكرة شهر يوليو/ تموز منذ ذلك التفويض المشؤوم بالدماء الناجمة عنه، إذ بدأت عشية ذلك التفويض مذبحةٌ بحق رافضي الانقلاب العسكري عند النصب التذكاري للجندي المجهول، راح ضحيتها أكثر من ثمانين مواطنًا، لتعقبها مذابح ومجازر أكبر، كانت أشهرها مذبحة ميدان رابعة العدوية التي أودت بحياة الآلاف من المصريين.
في اليوم السادس والعشرين من يوليو/ حزيران من كل عام، تداهمنا ذكريات التفويض بأسئلتها الرئيسة: هل انتهى خطر الإرهاب المحتمل؟ هل صارت الدولة المصرية "قد الدنيا" وحلّ الرخاء وفاضت أنهار التنمية؟أزعم أن المواطن المصري يتلفت حوله الآن، ولا يجد إلا أوهامًا شاهقة، بحجم أضخم مسجد وبارتفاع أعلى مئذنة، وصور أعلى ناطحة سحاب في جزيرة الورّاق التي جرت عملية تهجير سكانها واقتلاعهم من أراضيهم قسرًا، فقط من أجل محاكاة صورة دبي الزجاجية الصمّاء، منزوعة الروح والحس.
ذات ليلة، وبعد سنوات طويلة من ذلك التفويض، قال السيسي للمصريين "اسمعوني كويس، جا ربنا قالي طيب أنا هخلي معاك أكتر من الفلوس هخلي معاك البركة وريني هتعمل إيه في بلدك، وهتعمل إيه لناسك؟ هتغير صحيح؟ هتصلح أحوال صحيح؟ هتراضي الناس صحيح؟ هتسعد الناس صحيح؟". هؤلاء الناس من حقهم، بل من واجبهم أن يسألوا أنفسهم عن الإصلاح والرضا والسعادة، والجنة التي وعدوا بها ثمنًا لمنحهم الجنرال تفويضًا بالقتل والإبادة لكل من يعارضه أو يعترض على حكمه. ولكن شيئًا من ذلك كله مستحيل هذه الأيام، بعد كلّ هذه الضربات التي أنهكت الإنسان المصري، وسحقت روحه، حتى صار مطلوبًا منه الآن أن يصفّق ويهتف بحياة القائد الذي يغوص بالسفينة إلى قاع الفقر والمعاناة، مع الاستسلام الكامل لأوامر صندوق النقد والبنك الدوليين وإملاءاتهما، والانهيار المتسارع في سعر العملة المحلية، ومعها سعر المواطن الذي يجب أن يشكر الجنرال الذي قرّر أن يتعطّف ويمنحه مئة جنيه (تقريبًا خمسة دولارات) من أصل مئة وثمانين مليارًا، كان يخبئها في خزينته الخاصة، وذلك لمواجهة أعباء الحياة.
الآن تنشط منابر الجنرال الإلكترونية والإعلامية لطرح سؤال تمهيدي على المصريين: لو طلب الزعيم تفويضًا جديدًا، هل تبخلون عليه وتتخلفون عن تلبية النداء؟ يتدحرج السؤال من صفحات تحمل مسميات أجهزة أمنية، وإعلاميين يتبعونها، بما يبدو معه وكأن النظام الفاشل يريد أن يشرك الشعب معه في هذا الفشل، أو بالحد الأدنى، راضيًا به وموافقًا عليه، تحت تأثير المخدّرات الوطنية ذاتها: حماية الوطن من الإرهاب، والذي صار هنا ليس فقط المختبئ في كهوف الجبال بالصحراء، وإنما كل معارضة تنادي برحيل الفاشل.
مئة جنيه تتحدّث عنها الركبان في الفضائيات والصحف، من الزعيم الإنسان الحساس المرهف، ألا تكفيك أيها المواطن الوغد لكي تفوضه، مجددًا، أو تجدد التفويض القديم بالاستمرار في الخراب؟.
هذا لسان حالهم الآن.