تقسيم "توشيبا" .. مشهد أفول تاريخي
خبر صغير نشره موقع إخباري ياباني (nippon.com – 9/ 11/2021) يلخص مشهدًا مؤلمًا لأفول عصر، وانسحاب دولةٍ كانت، منذ سبعينات القرن العشرين، معجزة تتغنى بها الدنيا، وبخاصة لجهة تقدمها الصناعي والتكنولوجي، فقد انبعثت كالعنقاء من الرماد، بسرعة استثنائية من حربٍ عالمية انتهت بتعرّضها لأول هجوم نووي في التاريخ. يتحدّث الخبر عن احتمال "تقسيم" شركة توشيبا، اليابانية الشهيرة، إلى ثلاث شركات بأمل إنقاذها. والشركات اليابانية الرائدة في الصناعة الأكثر حداثة كانت معلمًا رئيسًا من صورتها قوة غزت العالم "تقنيًا"، حتى كان بعضهم لسنوات يصف اليابانيين بأنهم "إغريق هذا الزمان ورومانيوه". وخلال عقود الصعود الاستثنائي، كانت "توشيبا" البطل في واحدة من أكثر قصص الحرب الباردة إثارة. قصة تذكّر بأدوار شركاتٍ أسهمت في صناعة التاريخ الحديث بأدوار تجاوزت أدوار الدول، ولعل دور "شركة الهند الشرقية" الاستثنائي في بناء الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية في الهند حالة شبيهة، لكن معركة "توشيبا" أكثر حداثة.
كانت أميركا قد تزعّمت تحالفًا لأكبر منتجي التكنولوجيا الغربيين، ومعهم اليابان، لمنع التكنولوجيات العسكرية والتكنولوجيات مزدوجة الاستخدام (المدني/ العسكري) من وصول الكتلة الشرقية وأية عاصمة يحتمل أن تكون محطة "ترانزيت". التحالف الكبير مارس دوره من خلال لجنة عرفت اختصارًا باسم "COCOM"، وتم حلها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومن المدهشات أن نوابًا في الكونغرس قدموا، قبل هجمات 11 سبتمبر بقليل، مشروع قانون لإحياء "COCOM"!
المهم، أن إجراءات الرقابة هذه تخللتها اختراقاتٌ موجعةٌ كانت "حادثة توشيبا" إحداها، ففي مارس/ آذار 1987 تبين أن "توشيبا" باعت، عبر شركة أوروبية، جهاز روبوت بـ 18 مليون جنيه إسترلينى. وكان الروبوت معدة متطوّرة لخرط المعادن وصقلها، مكّنت الاتحاد السوفييتي من تخفيض ضوضاء محرّكات الغواصات النووية، ما أدّى إلى صعوبة تعقبها، وكانت النتيجة أن تكلف الغرب 30 مليار دولار لإنتاج أجهزة رصد جديدة، وهو ما وصفه سياسيون أميركيون آنذاك بأنه: رد "على الطريقة اليابانية" على هيروشيما وناغازاكي!
تقف اليابان اليوم في الظل، منحدرةً من دون أن يبكي عليها أحد في مشهد أفول مؤلم، وهي بعد الأمجاد الاقتصادية الكبيرة مثقلة بأعلى مستويات الدين العام بين الدول المتقدمة
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، وعندما امتلأ الإعلام الغربي حد التخمة بخطاب "التفرد الأميركي"، أطلق السياسي الياباني المشاكس شينتارو إيشيهارا (حاكم طوكيو بين 1999 و2012)، صيحة تحدٍّ أحدثت مشكلة كبيرة في العلاقات الأميركية اليابانية. وكانت الصيحة كتابًا نشر في البداية بالاشتراك مع رجل الاقتصاد الياباني أكيو موريتا (أحد مؤسسي "سوني")، والذي انسحب لاحقا من المعركة، وحذف الجزء الخاص به من الكتاب، بسبب غضب أميركي كبير خُشي على شركته منه. تُرجم الكتاب إلى العربية ترجمتين مختلفتين، وُصمت إحداهما بأنها ترجمة تدخلت فيها المخابرات الأميركية وحرفتها، وتولت الترجمة الثانية الفلسطينية هالة العوري وعنونتها: "اليابان تستطيع أن تقول لا". وكانت الفكرة التي أثارت الغضب أن اليابان الدولة الوحيدة التي تستطيع تحدّي أميركا، وكانت الشركات اليابانية في نظر إيشهارا من يستطيع حسم المعركة، ولم يفته أن يؤكد أن قيم العمل اليابانية أكفأ وأرقى. تحدّث إيشهارا عن أشباه الموصلات اليابانية، الأكفأ عالميًا، والتي لا غنى عنها لصناعات أميركا المتقدّمة (مدنية وعسكرية)، بل عن أن الصواريخ النووية الأميركية يمكن (إذا حُرمت منها) أن تفقد قدرًا غير قليل من دقة تصويبها. وفي الوقت نفسه، حكى إيشهارا قصة مقاتلة يابانية أكفأ من نظيراتها الأميركيات، صممتها بالكامل شركة يابانية واحدة: ميتسوبيشي، وكيف أن وزير الدفاع الأميركي، آنذاك، كاسبار واينبرغر، ذهل من مواصفاتها، ومنع إنتاجها.
تقف اليابان اليوم في الظل، منحدرةً من دون أن يبكي عليها أحد في مشهد أفول مؤلم، وهي بعد الأمجاد الاقتصادية الكبيرة مثقلة بأعلى مستويات الدين العام بين الدول المتقدمة (حوالي خمسة تريليونات دولار)، بنسبة 234% من الناتج المحلي الإجمالي. وأحد الأسباب الرئيسة لمسار الأفول الدرامي أزمة ديموغرافية حادّة تهدد بفقدانها 50 مليونا من سكانها خلال سنوات قليلة (في 2018 أصدرت دار ماكميلان البريطانية كتابًا عنوانه "هذا النذير" The 50 Million Shock: Japan’s Population Implosion). ومصير "توشيبا" جزء من مشهد عام شديد الكآبة، بعد أن فقدت اليابان موردها الأهم في معجزتها الاقتصادية: السكان.
أما من لا يرون في وفرة السكان في بلادنا إلا عبئًا على الاقتصاد، فليتهم يتعلمون الدرس قبل فوات الأوان!