تونس: عندما تتحوّل السياسة إلى مأساة
أصبحت تونس بلداً عاطلاً عن الديمقراطية، بعدما أطيحت هذه الديمقراطية. وباتت كلّ الطرق المؤدية إلى الانفراج مسدودة، بعدما تحوّلت السياسة إلى مأساة، بسبب شعبويةٍ متطرّفة شخصنت الدولة والمؤسسات المتفرعة عنها، وأضحت الآلة الاقتصادية بدورها معطلة ومعطوبة، وأرقام البطالة في تزايد. وتحوّلت الهجرة غير النظامية إلى ظاهرةٍ اجتماعية بامتياز تنتج المآسي والفواجع والكوارث، ومؤشّرات الاحتقان الاجتماعي مرشّحة لكل الاحتمالات، من دون معرفة المآلات.
ثمّة شعاراتٌ برّاقة وفضفاضة، تبيع الوهم وتعزف على وتر السيادة، والخيانة والوطنية والأمن والوفاء للثورة، في محاولة للتأثير على سيكولوجية المجتمع التونسي ووجدانه، ورغم أنّ الواقع ينطوي على حقائق موجعة، أبرزها حالة التجاذب السياسي الحاد، والانقسام غير المسبوق في الشارع، والصراع المحموم بين معسكري الرئيس ورافضي مشروعه الانقلابي، وأخطرها فقدان مكونات أساسية من الشعب التونسي الأمل، وإحساسها بالخوف من المستقبل، وهي تواجه حاضراً مضطرباً لا شيء فيه يدلّ على الاستقرار بمعناه الشامل.
تحوّلت السياسة إلى مأساة، بسبب شعبويةٍ متطرّفة شخصنت الدولة والمؤسسات المتفرّعة عنها
ومهما كانت أهمية القراءات والمقاربات المتبعة لتحليل ما حصل في تونس، وكيفما كانت طبيعة النتائج المتوصّل إليها، فإنّ أي شيء من هذا لا يصمُد أمام الرئيس قيس سعيّد الذي اجترح لنفسه مقاربة فريدة من نوعها في التعاطي مع شؤون الدولة، وتسيير مؤسساتها وتفصيل دستور على مقاسه، ليشرعن نظامه الرئاسي، ويسوّغ حكمه الفردي، وليوسّع صلاحياته وسلطاته، لتشمل كل المؤسسات. وفي سياق التأسيس لما يعتبرها جمهورية جديدة، هندس أيضاً قوانين انتخابية لتقزيم الأحزاب وتبخيس الحياة الديمقراطية، وتتفيه الممارسة السياسية، عبر إفراغ العملية الانتخابية من محتواها. ولا غرابة في ذلك ما دام قيس سعيّد لم ينخرط في أي حزب، ولم يتدرج في مسارات العمل السياسي. ومثل باقي الشعبويين، فإنّه يشعر بحساسية مفرطة تجاه الأحزاب والمؤسسات، والأخطر أنّه يختزل في ذاته الأمة والدولة والمؤسسات والأحزاب.
التأويل المغرض للأزمات، والفهم المتشنج للوقائع، وتحريف حقائق الواقع، عناصر عبّر عنها الرئيس قيس سعيّد، فلسفة سياسية مفارقة وسوريالية، حول أصول وقواعد الحكم، والعلاقة مع الفاعلين والشركاء في العملية السياسية. هذه الفلسفة تشذ عن القواعد المتعارف عليها، وتتمرّد على معطيات وحقائق الواقع، لأنّه هو الذي يجسّد هذا الواقع، وهو الذي يمثل المجتمع، وهو المتماهي مع الدولة، والعارف بنفسيات الشعب وأهوائه، وهو الفقيه الدستوري الذي لن يستطيع أي لاعب سياسي، مهما كانت مهارته وعبقرتيه وتجربته، أن يراوغه، فعدّته وعتاده المعرفي وتبحّره في علم اللغة وأنساق الخطاب وبلاغته، وتوفره على خيال سياسي رهيب، كلها عوامل ومؤهلات، مكّنته من أن يعدّل (ويحوّر) المعادلات والأسس والقواعد، التي من المفروض أن تكون محدّدة، لأي بناء ديمقراطي أو تحوّل سياسي إيجابي، قادر على تغيير الواقع المتردّي وتحسين الأوضاع الاجتماعية، والتصدّي للأزمات الاقتصادية.
شعاراتٌ برّاقة وفضفاضة، تبيع الوهم وتعزف على وتر السيادة، والخيانة والوطنية والأمن والوفاء للثورة
يزخر التاريخ المعاصر، بعددٍ لا يستهان به من التجارب السياسية، التي وصلت فيها أنظمة وحكومات إلى سدّة السلطة، سواء عبر مسالك ديمقراطية من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، أو من خلال عملياتٍ قيصريةٍ وانقلاباتٍ وتسوياتٍ معيّنة. ورغم أن هذه الأنظمة والحكومات كانت لها أجندة خاصة، أملتها حساباتها وتقديراتها السياسية، وطبيعة قراءتها الأحداث والسياقات والتوازنات، فإنها سرعان ما اضطرّت إلى التأقلم مع الحقائق التي يحبل بها المجتمع، وتقديم تنازلات ملموسة، وإظهار قدر معتبر من التجاوب والتفاعل مع مختلف المطالب والمواقف، بصرف النظر عن خلفياتها الإيديولوجية والفكرية. وذلك كله لبلورة توافقات وتفاهمات، من شأنها أن تؤدّي إلى إحداث انفراجات ضرورية، لتأمين نجاح مختلف السياسات والمشاريع. وما كانت تعتبره ثابتاً لا يمكن التخلي عنه أصبح نسبياً وقابلاً للتغيير، بعد الاحتكام إلى العقل والمنطق.
وحتى بالنسبة للحركات السياسية التي تستند إلى مرجعياتٍ مذهبية، قد تبدو أحياناً موغلة في الدوغمائية والتعصّب، لا تتردّد في تكييف قناعاتها ومعتقداتها، لمقتضيات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن الأمر، في ملّة التيارات الشعبوية وسلوكها، يبدو مختلفاً تماماً، فهي، وبشكل إرادوي، تجنح إلى إخضاع الواقع لتصوّراتها، كما ترسّخت واستقرّت في أذهانها. وكلما زاغت حقائق الواقع عن سكّة هذه التصورات، ولم تتفق معها، تلصق بها التهمة، وتصبح أكاذيب وافتراءات ومؤامرات، تصنّفها بشكل متوجس ضمن خانة أنصار النظام القديم، الذي هو رمز الفساد والاستبداد والاستعباد. والهدف من هذا التأويل الماكر والتفسير المغرض هو إجهاض أي عملية إصلاح حقيقية، والحيلولة دون أن تتطور دينامية المعارضة إلى قوة فعلية قادرة على فرض الأمر الواقع.
ارتفاع ملحوظ في معدّل انعدام الثقة بمؤسسات الدولة، وأزمات داخلية وخارجية، تتناسل وتتكاثر
وهذا بالضبط ما يشكل جوهر تفكير الرئيس التونسي، قيس سعيّد، فمن خلال تصريحاته الغريبة، وخطاباته المثيرة، يعتبر نفسه الشخص الوحيد الذي يخاف على تونس، وهو الوحيد الذي يتسلح بأعلى درجات اليقظة والوطنية "الصادقة"، خشية أن تمتد إليها أيادي العابثين والمتآمرين، إلى درجةٍ يتقمص معها صورة رسول بُعث لينشر رسالة عدل وأمن وسلام، وليدعو قوماً إلى الهداية، بعدما انحرفوا وباتوا مهووسين بالمصالح والمغانم والمنافع المادية للسياسة. والنتيجة التي حصدتها تونس منذ انقلاب 25 يوليو (2021) ارتفاع ملحوظ في معدّل انعدام الثقة بمؤسسات الدولة، وزجّ البلاد في أتون أزمات داخلية وخارجية، ما زالت تتناسل وتتكاثر وفق متوالية هندسية، ما جعل شرائح واسعة من الشعب التونسي تعبّر عن تذمّرها وسخطها تجاه قرار فردي وفوقي لسجن بلد بأكمله وإبقائه رهينة مزاج رئيسٍ لم ينتهِ بعد من إحصاء عدد المتآمرين والمتربّصين بأمن تونس وسيادتها ومستقبلها. لكنّ غشاوة النرجسية المتضخمة، ومركزة تونس برمتها حول ذات الرئيس المنقذ، جعلت الأسواق والمراكز التجارية للمواد الأساسية تعاني من نقص شديد في الدقيق والسكر والحليب والزيوت والبيض واللحوم الحمراء والبيضاء، ما كان سبباً في نسج صورة لا تليق بتاريخ الشعب التونسي وحضارته وتمدّنه وتميزه، عندما أظهرت مجموعة من الفيديوهات مشاهد تدافع وتسابق في عدد من الأسواق، للظفر بكمية من السكر. وكأنّ البلاد في حالة حرب، أو ضربتها مجاعة ساحقة، علماً أن الدولة هي التي تحتكر استيراد هذه المواد وتتولى توزيعها.
في تفسير هذا التردّي وتعليله، يمكن أن نستحضر هنا تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، وما أنتجته من تقلبات واضطرابات في السوق العالمية. كما يمكن أن يشار إلى سوء إدارة المخزون الاستراتيجي لهذه المواد وانعدام خريطة طريق واضحة الأهداف بخصوص الأمن الغذائي. لكنّ للرئيس قيس سعيّد ومن يدورون في فلكه تفسيراً آخر، فهم مقتنعون بأنّ اختلالات سلاسل التوزيع واضطرابات الأسواق جزء من مؤامرات سياسية خططت لها في الظلام جهاتٌ ليس لها من هدف سوى سحق الشعب التونسي والعبث بخيراته وأرزاقه وتجويعه، بغية تحريضه وتأليبه ليتمرّد ويثور على الرئيس الذي يجسّد المعنى المطلق للخلاص، وليعلن العصيان على السلطة في أفق إطاحتها. وفي المقابل، إفساح المجال للوبيات، لتُحكم سيطرتها على خيرات البلاد، ولتتحكّم في العباد، علماً أنّ هذه السلطة، وفق منطق الرئيس سعيّد، اختارها الشعب. وتبعاً لذلك، هي تتمتع بالشرعية الديمقراطية، ولا يمكن الطعن في وفائها للمبادئ والقيم التي تشكّل روح الجمهورية التونسية ومدماكها في صيغتها "الجديدة".