تونس في مهبّ أزمة اليمين الدستورية
لا يبدو أن الحكومة التونسية التي تولّى هشام المشيشي تشكيلها، ونالت ثقة البرلمان التونسي، مطلع شهر سبتمبر/ أيلول 2020، قد تجاوزت جغرافيا الزوابع السياسية والهزّات القانونية والدستورية، فقد اعترض الرئيس قيس سعيد على التعديل (التحوير) الذي طرأ عليها، وشمل 11 حقيبة وزارية، بموافقة مجلس نواب الشعب في جلسته يوم 26 جانفي (يناير/ كانون الثاني) المنقضي، وامتنع عن قبول الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه، كما تنص على ذلك الفقرة الأخيرة من الفصل 89 من الدستور التونسي، والتي تؤكد على أن رئيس الحكومة وأعضاءها يؤدّون اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية وفق الصيغة التالية: "أقسم بالله العظيم أن أعمل بإخلاص لخير تونس، وأن أحترم دستورها وتشريعها، وأن أرعى مصالحها وأن ألتزم بالولاء لها". والقسم حسب تأويل سعيد الذي عبّر عنه في اجتماع مجلس الأمن القومي المنعقد في قصر قرطاج، في 25 من الشهر الماضي (يناير) ليس مسألة شكلية عابرة أو إجراء ثانويا تقتضيه البروتوكولات والأعراف وقواعد العمل التي دأب رؤساء سابقون على تنفيذها من دون تدبّر ونظر، وإنما هو محمل جوهري ثقيل الوزن لا يخلو من تعظيم وتقديس دور سام في أعلى هياكل الدولة ومؤسساتها، وهو قسمٌ بغليظ اليمين واليد موضوعة على القرآن العظيم على إخلاص العمل لتونس، واحترام دستورها وتشريعاتها ومصالحها.
ولكي لا يصنف هذا القسم في خانة اليمين الغموس التي يبطن صاحبها ما لا يظهره، وهي اليمين الكاذبة أو القسم الآثم الذي يهدف إلى تحقيق مآرب شخصية ومكاسب مادية عبر التمكّن من الوصول إلى وظائف سامية عليّة، يتم الوصول إليها بطرقٍ ملتويةٍ غير شرعية، تؤول إلى أشخاص من أحزاب سياسية أو ذوي صلةٍ بمراكز نفوذ وقوى مالية أو إدارية أو على علاقة بمصالح أجنبية، لا تخلو من تضارب مصالح، وحتى من ممارسات فساد بيّنة وجلية، اختار سعيد تعطيل هذا القسم، ومن خلاله التحوير الوزاري، لشبهاتٍ أو تُهمٍ قد تكون علقت ببعض الوزراء الجدد. ولعل مبدأ احترام الدستور هو ما فرض عليه هذا التمشي الذي يقتضي الالتزام بما جاء في توطئة القانون الأساسي للدولة من حياد للإدارة، ومن حكم رشيد. وما ورد في فصله عدد 15 أن الإدارة العمومية تكون في خدمة المواطن والصالح العام، وتعمل وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة، وما أكد عليه الفصل عدد 13 من أن الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه، فلا يمكن هدرها أو التلاعب بها، أو التفريط فيها للحساب الخاص، أو لفائدة الآخر الأجنبي المتهافت على السيطرة عليها بكل الوسائل المتاحة القانونية وغير القانونية، والتي قد تؤمّنها شخصياتٌ تتولى وظائف في هرم الدولة. ولا يمكن لسعيد، وهو ضامن تطبيق الدستور التونسي ورمز وحدة الدولة، أن ينسى أو يتناسى تجارب رؤساء حكومات سابقين ووزراء وكتاب دولة من ذوي الجنسيات التونسية والأجنبية كيف جيء بهم من شركات أوروبية وأميركية عابرة القومية، لتولي تلك المناصب، وكيف قدّموا خدمات جليلة لتلك الشركات، وكونوا ثروات طائلة من الوظائف الحكومية التي تولوها. ومن ثمّة فإن اليمين التي يقسمها الوزير ستكون باطلة إيطيقيا (أخلاقيا) ودينيا، إذا كان سجلّه المهني وسيرته الذاتية والتقارير الرقابية المتعلقة به والصحائف والمدونات والمحاضر التي تزخر بها أدراج المحاكم والقضايا المرفوعة ضده تشهد على مصالحه الخاصة التي تتنافى وتتضارب مع الصالح العام، أو على فساده وارتباطاته وزبونيته التي تخلّ بمبدأ احترام القانون خدمة الصالح العام.
استحال الصراع على أداء اليمين سجالاً قانونياً وانقساماً حادّاً بين أباطرة القانون ورجالاته البارزين
ولعلّ رئيس الجمهورية، قيس سعيد، يستحضر وعوده الانتخابية المناهضة للفساد وضرورة مقاومته، ويسترجع ما ذكره في خطاب التولي، والقسم الذي ألقاه يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أمام مجلس نواب الشعب عند أداء اليمين الدستورية، وتحدث فيه عن الأمانة بوصفها أمانات، وجاء فيه أن "الأمانة أيضا هي الحفاظ على مكتسبات المجموعة الوطنية وثرواتها، كل واحد من أبناء هذا الوطن العزيز يجب أن يكون قدوة ولا مجال للتسامح في أي ملّيم واحد من عرق أبناء هذا الشعب العظيم". وقد كان سعيد يعتقد أن اختياره المشيشي مستشارا له في القصر الرئاسي، ثم وزيرا للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ، فرئيسا لحكومة الرئيس الثانية، هو الخيار الأسلم، وأن الرجل المغمور الذي كانت تجربته مقتصرة على رئاسة دواوين بعض الوزراء، بوصفه أحد خرّيجي المدرسة الوطنية للإدارة، والقادم من سلك مراقبي الدولة الذين لا يُعرف عنهم الاشتغال بالسياسة أو الانتماء إلى الأحزاب السياسية، أو الاستجابة لإغواء لوبيات المال والأعمال، سيكون وفيا للمقاربة الحوكمية المناهضة للفساد وتضارب المصالح التي يمكن أن تتولاها حكومة كفاءاتٍ مستقلّةٍ وغير متحزّبة ذات خلفية إصلاحية. لكن الرجل تنكّر لمن ولّاه الأمر، وأخرجه من عتمة العمل الإداري الصرف وواجب التحفظ الذي يحكمه إلى أنوار السلطة وأضوائها، تحالف مع حزبي النهضة وقلب تونس ونواب وأقليات برلمانية من ذوي المصالح والمنافع، وممن لا يخفون عداءهم لسعيد وانزعاجهم من رؤيته للحكومة والحكم والحكامة والسيادة، وهو المتصدّر، منذ توليه الرئاسة، استطلاعات الرأي العام بفوارق كبيرة مقارنة بمنافسيه. ولم تفد في شيء حملات التشويه المتتالية ضده التي تعجّ بها صفحات أنصار أحزاب الحكومة على الشبكات الاجتماعية.
وقد استحال الصراع على أداء اليمين الدستورية بين رئيس الدولة المدعوم شعبيا ورئيس الحكومة الذي يفتقد إلى أي تجربة أو خلفية سياسية أو حزبية سابقة، ولكن حركة النهضة، ذات الأغلبية البرلمانية وزعيمها رئيس البرلمان راشد الغنوشي، تضع ثقلها في خدمته، استحال سجالا قانونيا وانقساما حادّا بين أباطرة القانون ورجالاته البارزين في تونس، وذلك في غياب المحكمة الدستورية التي اجتباها الدستور التونسي وحدها لحسم نزاعات الحكم بين رأسي السلطة التنفيذية، وذلك في الفصل 101 الذي ينص على أن "ترفع النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية التي تبتّ في النزاع في أجل أسبوع بناء على طلب يرفع إليها من أحرص الطرفين". ولمّا كان هذا الأمر غير متاح لعدم تشكيل المحكمة الدستورية، فقد استعاض عنها رئيس الحكومة، الذي بدا هو الأحرص، على بتّ النزاع باستشارة المحكمة الإدارية التي يبقى دورها استشاريا لا تقريريا، هذا علاوة على أنها ليست جهة الاختصاص، وذلك قبل اللجوء إلى الهيئة الوقتية للنظر في دستورية القوانين، وكلّها مقدّمات لمرور أحزاب الحكم إلى الشارع، فقد بدأت التعبئة على الفضاء الافتراضي من أجل المظاهرة المليونية قبل الانطلاق في إجراءات عزل الرئيس، على خلفية ارتكابه خطأ جسيما، للمحكمة الدستورية أحقية إقراره وحدها، والتي بدأت قيادات في حزب قلب تونس، الطرف الثاني في حزام الحكومة، تسويقها.
تحولت الأزمة الحكومية الحادّة التي تعيش على وقعها تونس إلى عطالة حكومية هيكلية حادّة
ومن غير المرجحّ أن يكون الغالب في معركة كسر العظم التي بلغت أوجها بين تيارين رئيسيين، الأول يقوده الرئيس قيس سعيد وحلفاؤه، الاتحاد العام التونسي للشغل والكتلة الديمقراطية، والثاني يتزعمه رئيس البرلمان راشد الغنوشي، المعني بعريضة سحب ثقة هي بصدد الإمضاء في كواليس مجلس نواب الشعب، ويدعمه كل من "قلب تونس" وائتلاف الكرامة، هو الحكومة ورئيسها وحزامها السياسي الداعم.
تحولت الأزمة الحكومية الحادّة التي تعيش على وقعها تونس إلى عطالة حكومية هيكلية حادّة، زادت حدّتها برفض الرئيس قسم كل الوزراء الذين شملهم التعديل الوزاري، وعدم الاقتصار على من يرميهم هو بشبهات فساد وتضارب المصالح، ما يعني أن حكومة المشيشي باتت عاجزةً عن القيام بدورها في الحكم، الأمر الذي يقتضي استقالتها أو سحب الثقة منها لفسح المجال أمام حكومة جديدة قادرة على إدارة الوضع الاقتصادي والمالي الذي يشهد حالة انهيار لا مثيل لها في تاريخ تونس المعاصر، من أبرز مقدّماتها فقدان الحكومة قدرتها على تعبئة العجز في ميزانية الدولة المقدر بـ20 مليار دينار، وسداد الدين السنوي لهذه السنة المحدّد بـ16 مليار دينار، وتهديد موظفي الدولة الذين يصل عددهم إلى 650 ألف موظف بعدم تلقيهم أجورهم لشهري فبراير/ شباط الحالي ومارس/ آذار المقبل.