ثمن إعادة الأسد
بعد ما قيل إنها حوارات داخلية جرت في أروقة جامعة الدول العربية العام الماضي، وُجِّهت دعوة إلى بشار الأسد لحضور مؤتمر القمّة العربية الإسلامية الطارئة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في الرياض، وحضرها وسط زخم كبير لإعادة استيعابه ضمن النادي العربي مرّة أخرى، وقد أنهى حضورُه ذاك عزْلا عربيا امتد 12 عاما، عقدت خلاله 11 قمة عربية، كان النظام حينها يشنّ حربا على جبهات المدن السورية كلها، أسفرت عن دمار هائل وهجرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المنطقة. وقد عوّل الأسد ونظامه على قمّة الرياض لتوسيع حضوره وإعادة الارتباط به عربيا كما كان في السابق. لم يأت بيان تلك القمّة على القضية السورية، فقد تكرّس بشكل كامل للحرب في غزّة، التي ما زالت مشتعلة. وبعد سبعة أشهر، عقدت قمّة أخرى في المنامة دُعي إليها بشّار مجدّداً، وحضر مع من حضر، وكانت خلاصة بيانها عن غزّة أيضاً، والفرق بين الحضورين أنه تحدّث في الأولى إلى الزعماء العرب، فيما صمت في الثانية، وكأنه لا يرغب حتى بإبداء التفاعل مع ما يحدُث في غزّة.
بدا الحماس لحضوره هذه المرّة قليلا، وقد عُقدت عدّة اجتماعات تمهيدية من دول المحيط الإقليمي، التي تضرّرت من رعاية النظام في سورية تجارة المخدّرات التي تتحرّك نحو "الأسواق" العربية كالسيل عبر الحدود السورية. وقيل إن معظم الجهد العربي المبذول لإعادة الاتصال مع سورية مكرّسٌ للحدّ من حركة المخدّرات وإيقاف تدفّقها، ولم يمانع الزعماء العرب من إجراء تطبيع تدريجي في حال توقف تمرير السموم، ولكن ما حدث بين القمّتين لا يُظهر أي جهد حقيقي من النظام للسيطرة على هذه التجارة، بل تطوّرت أساليب التسليم لتشمل استعمال الطائرات المسيّرة عن بعد! وطوّر الأردن، باعتباره الأكثر تضرّراً، طريقة تعامله مع الأمر من مجرّد التنسيق مع الجهات الأمنية التابعة للنظام السوري إلى استعمال وسائل عسكرية مباشرة في إسقاط بعض تلك المسيّرات أو استهداف المهرّبين أنفسهم قبل أن يعبروا الحدود إلى داخل الأردن.
الحفاوة "الرسمية" التي ظهرت نهاية العام الماضي بعودة النظام لم تصاحبها إمكانات عملية نحو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011، فلم تبدأ الاستثمارات الموعودة، وقد لعبت العقوبات الأميركية دوراً في منعها، من دون أن تتمكّن من الحسم تماما في وقف التعامل مع النظام. وجاء إعلان فتح السفارة السعودية في دمشق مع تسيير رحلات جوية من بعض المدن السعودية إلى سورية إضافةً دبلوماسية رافقت تطبيع العلاقات مع الأسد. لكن هذا غير كافٍ لضخّ الحياة في الموات الذي يلفّ مناطق سيطرة النظام، وقد يضيف تطوّر الحرب في أوكرانيا وانشغال روسيا بها، ومشكلات إيران الداخلية وعلى الجبهات، مزيدا من الضغوط على الأسد.
لا يبدو أن النظام السوري قادرٌ على تغيير بنيته، حتى إن أراد ذلك، فقوام النظام يعتمد على الجيش وقوات الأمن التي تعتمد على اقتصادٍ مواز يضمن لها تدفّقا ماليا هائلا، يأتي معظمه حاليا من رعاية الورشات التي تنتج المادة المخدّرة وتسوّقها، وتستفيد من وضع المجتمع السوري المنهار، فتجد مستعدين كثراً للضلوع في هذه التجارة. ومنظومة الأمن والجيش الضخمة بعيدة عن مفاهيم التنمية والتطور، وتحتاج حركة مالية خاصة تدوِّر فيها أموالها المعتمِدة على تصنيع المخدّرات والحصول على "الكاش" الذي يتحرّك بسرعة عالية. أما المواطن العادي، فاقتصاد "أسماء الأسد" الذي كانت تديره غير كافٍ ليسد رمقه، وكذلك الحاكم العربي "المطبِّع" الراغب في الاستثمار لن يجد في هذه التربة بيئة صالحة ليجني أرباحاً، وقد يفقد رأس ماله فوقها. ولكن يبدو أن الحفاظ على المنطقة كما هي ومناهضة أي تغيير فيها أمرٌ بالنسبة له يستحقّ هذا الثمن.