ثمن تصعيد المعارك في المنطقة
منذ عملية 7 أكتوبر والردّ الإسرائيلي العنيف على غزّة، بدت أميركا وكأنها اتخذت قرارا بعدم تمدّد الحرب إلى مرحلة المواجهة الواسعة المباشرة. لذلك أكّد وزير الخارجية بلينكن على عدم التوسّع، مع حرصه على حقّ إسرائيل "في الدفاع عن النفس". ظلّ الوضع العسكري تحت السيطرة رغم تكرار المناوشات الحدودية بين حزب الله وإسرائيل، ورغم سقوط قتلى لحزب الله بينهم قادة، وحتى الغارة الدقيقة على ضاحية بيروت الجنوبية معقل حزب الله الحصين واغتيال أحد قادة حماس الكبار في الخارج (صالح العاروي)، لم تجرّ حزب الله إلا إلى ردود "تقليدية"، شملت قصفاً صاروخياً محدوداً. وقد حرصت إسرائيل على أن تكون غارتها على الضاحية الجنوبية في منتهى الدقّة بعكس غاراتها على غزة، في رسالة واضحة المعاني إلى حزب الله. مع هذه الإجراءات كلها، بقيت الحرب محصورةً كما ترغب الولايات المتحدة ضمن غزة شمالاً وجنوباً من دون أن تلتهب المناطق الأخرى، ولكن المدة الطويلة التي صرفتها إسرائيل في تصفية حسابها مع غزة أثارت نقاطا قلقة أخرى، وفتحت الباب للحوثيين في اليمن لإيجاد مضايقات بحرية على باب المندب، مهدّدة أحد أهم خطوط التجارة الدولية، ما جعل الولايات المتحدة وبعد 15 أسبوعا من الحرب في غزّة أن تبدأ الأسبوع السادس عشر بقصف لمواقع الحوثيين في العمق اليمني، وكالعادة، اصطحبت معها بريطانيا للمشاركة والمساندة في عمليات قصفٍ لم تُخطّط له.
أعلن الناطق الرسمي باسم جيش الدفاع الإسرائيلي، دانيال هاغاري، في 9 يناير/كانون الثاني الحالي، عن بدء مرحلة جديدة "أقلّ كثافة" في الحرب على غزّة، ولكن التصعيد المتسارع جعل جبهة المعارك أكثر وأوسع نطاقا، يمكن تلمّسها منذ ذلك الإعلان، فقد سبقه أسبوعٌ دامٍ بدأ بعد الانتهاء من احتفالات رأس السنة مباشرة باستشهاد العاروري في لبنان، ثم بتفجير ثنائي في إيران استهدف المحتشدين في ذكرى اغتيال قاسم سليماني، وفي اليوم الذي تلاه هاجمت طائرات أميركية مقرّا للحشد الشعبي في بغداد قتلت فيه القائد العسكري مشتاق طالب السعيدي مع آخرين. وأعقب إعلان إسرائيل عن المرحلة الجديدة الهجومُ الأميركي البريطاني على القوات الحوثية في اليمن، ليأخذ منحى التصعيد منعطفاً جديداً، لا سيما بعد أن كرّرت الولايات المتحدة قصفها قوات الحوثي عدّة مرّات، وأعلنت عن نيّتها بالاستمرار في القصف، ثم أعادت إدراج اسم جماعة الحوثي ضمن قوائم الإرهاب لديها. لم تترك إيران هي الأخرى المجال خاليا لقصف قواعد حلفائها الحوثيين، فنفذت هجماتٍ طاولت بغداد وأربيل وحتى مناطق بلوشستان في باكستان، وفي هذه الأجواء استهدفت غارت جوية أردنية مناطق في ريف السويداء جنوب سورية، وأسفرت عن سقوط قتلى. ... تعكّرت أجواء المنطقة وازدحمت بالطائرات المقاتلة أو الصواريخ البالستية المسرعة إلى أهدافها، ليصبح التوسّع أمرا واقعا ويشمل جبهاتٍ أكثر، وصار على الولايات المتحدة أن تبحث عن تكتيك جديد تواجه به الموقف.
وسط الضجة المسلحة التي اجتاحت طول الإقليم وعرضه اعتبارا من بداية العام الحالي، ضاعت ملامح مشروع اتفاق الهدنة الجديد الذي كان الحديث قويا عنه، ومن ضمنه الإفراج عن بعض المحتجزين في غزّة وبعضهم من الأميركيين، مقابل بضعة أيام من التهدئة، ومن الأسباب التي تقدّمها الولايات المتحدة لإصرارها على عدم التوسّع في الحرب مصير المحتجزين. يقع بايدن تحت ضغوط الكونغرس، ويتلقى انتقادات لتركه الحوثيين يمرحون حول مضيق البحر الأحمر الهامّ، لكنه يتابع حديثه عن تهدئة مقرونة بمصير المحتجزين. لم يتخلَّ بايدن كليا عن مبدأ عدم التوسّع، رغم هجماته المتكرّرة على مواقع الحوثيين، وهي مرشّحة للاستمرار، ولكنه يبدو واثقا من الطرف الآخر الذي يُظهِر بدوره حرصاً على عدم التوسيع، رغم انهمار الضربات عليه، فهو يتوقّع ثمنا بحجم مشروع الاتفاق النووي.