ثمن صورة السيسي وأوباما
مصر الجديدة تبدو مولعة بالصور، مستغرقة أكثر في الخيال أكثر مما هي مشغولة بالواقع، مهتمة بالأسطورة هرباً من الحقيقة.
لقد وعد عبد الفتاح السيسي شعبه بمصر كبيرة "قد الدنيا"، فصار الإنجاز الكبير، من وجهة نظر آلته الإعلامية والدبلوماسية الصاخبة، أن الزعيم حظي بمصافحة أمير قطر وقت الغداء، أو أن الخارجية التركية طلبت لقاء بالبعثة المصرية، أو أن الجنرال قابل الرئيس الأميركي، والتقط معه صورة تذكارية.
وبصرف النظر عن كون طلب الخارجية التركية لقاء مع نظيرتها المصرية مجرد قصة سيناريست متواضع، فإن ما يدعو للأسى أن يصبح معيار نمو مصر أن حاكمها سلم على عشرة زعماء، والتقى مع ١٥ رئيساً، وتناول الغداء مع فلان .. والأسوأ أن تستمر آلة إنتاج الصور المزيفة في عملها على الصعيد الدولي، لدرجة أن الرد الوحيد على كلمة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المنددة بالانقلاب العسكري والمستنكرة دعوة حاكم جاء بالانقلاب لمحفل دولي، هو ادعاء أن مصر رفضت طلباً من اسطنبول للقاء دبلوماسي رفيع .. والأكثر سوءاً أن تنشر صحف مصرية وثيقةً بلا معالم واضحة، تقول إنها خطاب من وزارة الخارجية التركية تستجدي لقاء مع وزير الخارجية المصري، على هامش قمة المناخ في نيويورك.
والشاهد أن مصر السيسي صارت مجرد صورة باهتة لمصر التي في خاطر العرب والعالم، مجرد خارطة قديمة لبلد كبير تعرض لانكماشات مخيفة على يد حكامٍ لا يعرفون شيئاً عن تاريخها وجغرافيتها، ولذلك، ليس من قبيل المصادفة انتعاش صناعة الصور على هذا النحو الباذخ هذه الأيام .. بدءاً من صورة الثلاثة وثلاثين مليون مواطن الشهيرة في ٣٠ يونيو/ حزيران، مروراً بصور مضحكة مع زعماء العالم، وليس انتهاء بتلك الصورة التلفزيونية المحلقة في سماء الفنتازيا أثناء جلسة النطق بالحكم على حسني مبارك ومعاونيه في ما يعرف بقضية القرن، أمس.
وليس هذا الاهتمام بالصورة على حساب الأصل ابتداعاً في إدارة عبد الفتاح السيسي فقط، بل هو موروث من زمن معلمه ودليله إلى الحكم حسني مبارك، ولعل ما جرى في الزيارة الشهيرة للرئيس الأميركي، باراك أوباما، في عام 2009 ليس ببعيد، إذ اعتبرت ماكينة إعلام مبارك، التي تعمل مع السيسي الآن، أن مجيء أوباما لإلقاء خطاب في جامعة القاهرة ضمن جولة شرق أوسطية يعني أن مصر صارت كبيرة.
في ذلك الوقت، قلت إن دولة حسني مبارك تتعامل مع الحدث على أنه "استقدام" أوباما على طريقة الدول الصغيرة في شرق آسيا، عندما تستضيف الفرق الكروية الكبرى، مثل برشلونة ومانشستر يونايتد، لأداء مباريات استعراضية، لا تخرج عن التقاط الصور والتوقيع على أوتوجرافات المعجبين وبيع التيشيرتات وإنعاش سوق الإعلانات ودمتم. وكعادتها، راحت صحف النظام تسرد قصصاً خيالية عن كميات البيض المسلوق الغارق في السمن البلدي والفطير السابح في العسل التي تناولها أوباما مع مبارك في فطورهما التاريخي، الذي تحول بالطبع، إلى إنجاز تاريخي للدولة المصرية، تماماً كما فعل إعلام السيسي مع لقاء أوباما به، إذ راحت تروج صورة عبثية عن أن أوباما هو الذي استجدى الموعد من الزعيم، كي يتعلم على يديه أصول الحكم وفنون الإدارة.
ومن عجبٍ أن الإعلام الذي اعتبر أن عقد اللقاء هو بمثابة شهادة صلاحية لنظام السيسي، هو ذاته الذي سكب في أدمغة جمهوره أطناناً من الحواديت الأسطورية عن تآمر أوباما وإدارته ضد السلطة الانقلابية، دعماً للإخوان، ونسج أساطير من نوعية أسر قائد الأسطول السادس الأميركي على يد ضفادع السيسي ونسوره الجارحة.
وبالطبع، لم يتوقف أحد عند تصريحات حاكم مصر، بعد اللقاء، والتي يعلن فيها جاهزيته لأداء كل ما يُطلَب منه أميركياً، لقاء اعتراف بسلطته المعجونة بالدم.
إنها مصر حين تهرب من الحقيقة للأسطورة، وتتفرغ لصناعة الصورة!