ثورات يتيمات على موائد المفاوضات
كل ثورةٍ هي عبور وانتقال من حال انهزامٍ إلى حال انتصار، وبالتالي كل ثورةٍ هي حربٌ نظيفة، بأسلحةٍ نقية، لا تسيل الدماء ولا تحرق الزرع والنسل. ومن أسفٍ أنه، في تاريخنا العربي الحديث، كل انتصاراتنا الرائعة تكون في مهبّ الفشل، حين تحدث الثغرات، عفويًا، أو تصطنع، بمنتهى المكر والخسّة.
مقتل الثورات في الثغرات، وصناعة الثغرات تبدأ مع استدراج الثورات مبكرًا إلى غرف المفاوضات المظلمة، قبل أن تكتمل، وعلى الموائد العامرة بكل الأصناف الشهية يكون السم حاضرًا غير مرئي، فتصاب الثورة بحالة تسمّمٍ تفقدها اتزانها.
حدث ذلك في السودان، كما حدث في مصر قبل سنوات، وإن كانت في الحالة السودانية ثمّة محاولات حقيقية للتخلص من"سمّيات التفاوض"، من خلال الدعوة إلى الإضراب العام، بمواجهة تنمّر العسكر على الثورة.
لقد وجدت ثورة السودان نفسها في موقف الدفاع، بعد أن نجح عسكري الجنجويد في التسلل إليها بنعومة، ثم عناقها بدفء، حتى تمكّن من فرض نفسه واحدًا من أهل بيتها، ليبدأ بعدها في زرع الألغام ودسّ السموم، وإنهاك الثورة بالمفاوضات والمساومات، لينتهي الأمر بأن يعتبر العسكريون أنفسهم هم أصحاب الثورة وصنّاعها وملاكها، بينما المعتصمون في الشوارع هم أعداؤها وخصومها.
تحدث الثغرة حين تستعيض الثورة عن الفعل "يأمر" بالفعل "يطلب"، فتتخلى في هذه اللحظة عن كونها مرجعية، اختارتها الكتلة الأكبر من الجماهير التي خرجت، ليس فقط من أجل تغييراتٍ في بنية النظام السياسي، وإنما إقامة نظام سياسي جديد تمامًا، وعلى قطيعةٍ تامةٍ مع ما سبق.
على موائد التفاوض، تكون الغلبة لمن يمتلك أوراق القوة على الأرض، لكن ما حدث أنه، بالتوازي مع اصطياد الثورة بالاستدراج إلى غرف التفاوض، كان العسكر ينتشرون على الأرض، ويُحدثون تغييراتٍ في خريطة الحراك في الشارع، ليخرج حميدتي، عسكري الجنجويد الذي صنعه عمر البشير على عينه وسمنه وضخمه، ليطالب الثورة بالعودة إلى مساكنها، وليس عودة العسكر إلى ثكناتهم، وينتقل إلى حالة الهجوم الشرس، في أعقاب زيارته السعودية، وزيارة الجنرال الآخر، عبد الفتاح البرهان، القاهرة وأبو ظبي، للحصول على توكيل "الحفترة"، وإعلان الحرب الصريحة على الثورة السودانية.
تكاد السيناريوهات تتطابق، إذ تحتفظ الذاكرة بما كتبته في السابع من يوليو/ تموز 2011 تحت عنوان"جمعة القضاء على الثغرة"، عن آفة الثوار في أنهم يُفرطون فى الاحتفال والابتهاج ببشائر انتصاراتهم الشحيحة، ويبالغون في الاستسلام لحالة النشوة، بما يوجد براحا للأعداء كي يجمعوا شتاتهم، ويستردوا عافيتهم، وتحدث ثغرة خطيرة ينفذون منها للانقضاض على الانتصار، وتحويله إلى هزيمةٍ أو نصف هزيمة.
لقد حدث ذلك فى انتصار أكتوبر 73 العظيم، مع قصة الثغرة التى اختطفت نصف الانتصار، ودفعتنا دفعا للرضوخ لغواية المفاوضات، وما تلاها من التحاقٍ مهينٍ بقطار التطبيع..
وشيءٌ من ذلك جرى مع ثورة 25 يناير، ويجري مع ثورة السودان الآن: ثغرة، ثم ضربات إجهادية وإجهاضية، وعمليات إنهاك منظمّة، ومحاولات لا تتوقف لتسفيه قيمة انتصار الشعب، وعمليات التكفير بالثورة، تارة بترويع المصريين أمنيا، وأخرى بخنقهم اقتصاديا، من خلال تباطؤ متعمدٍ فى إنجاز جدول أعمال ما بعد الثورة، وأحيانا بعض التراخي الذي يصل إلى حد التواطؤ مع خصومها. والأخطر كان الاستسلام لفتنة الدستور أم الانتخابات أولا. ولكل ما سبق، من المهم أن يعى العائدون إلى الميدان اليوم أنهم خارجون لمواصلة معركتهم ونضالهم السلمي المتحضر، بمنطق أن نصف انتصار يعني نصف هزيمة، ومن ثم لا مناص من تكملة المشوار، واكتمال الانتصار بأمضى سلاحٍ عرفه التاريخ، وهو "إيد واحدة".
وأظن أن تصحيح مسار ثورة السودان ما زال ممكنًا، لكن ذلك مرهونٌ بسد ثغراتٍ أخرى، لا تقل خطورة، تنفذ منها أفاعي صناعة الاستقطاب التي تمارس فحيحها من الخارج والداخل. والحال كذلك، يبدأ الحل بالعودة إلى لحظة البداية من عطبرة، كما ولدت في 19 ديسمبر/ كانون أول 2018، واستئناف برنامج عمل الثورة من جديد، والوضع في الاعتبار أن أكثر من"بشير" لا يزالون في القصر.