ثورة سورية تنتصر... و"صيدنايا" يعتقل الفرح

17 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

حين انتشل فرحٌ مباغت المرثيّةَ السورية المُبكية من زمنها الطويل، فعل ذلك برشاقةٍ مباغتةٍ بدأت من حلب في الشمال، وسرعان ما وصلت إلى محافظات الجنوب السوري خلال أيامٍ معدودات، وهو فرحٌ ثريٌّ وباذخ القيمة، يصعبُ تركه، أو التخلّي عنه، هو فرحُ السوريين بشفاء جسدهم أخيراً من سرطان الأسد. انتصر الجسد الموهن، وهُزم المرضُ الذي لا يرحم، فكان اندحار النظام السوري السابق ورئيسه سريعاً وخاطفاً، حين سرى كالقشعريرة اللذيذة داخل الجسد السوري الآخذ بالتعافي من تحلّله التدريجي، الذي لطالما استعطف العدم ليستريح. لذلك يصعبُ الآن افتعال أيّ نقدٍ أو مشاجرةٍ سياسيةٍ مع الخلفية الأيديولوجيّة والعقائديّة لإدارة العمليات العسكرية، ومكوّناتها الرئيسة من هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، حين خاضوا جميعاً حرباً لتخليص سورية من مأزق الأسد المستعصي، حتى ولو ذهب ثوّار تلك الفصائل إلى تسمية حرب تحرير سورية بالجهاد، أو بالفتح، أو بتسميتهم أحمد الشرع بالفاتح، غير أن تلك التسميات ليست مؤذية للعلمانيين واليساريين، طالما أن إدارة العمليات العسكرية لم تستثمر انتصارها العسكري، ثمّ السياسي، بما يُنغّصُ حياة المجتمع السوري المجبول بالتنوّع والاختلاف العقائديّ، والإثنيّ، وحتى الثقافي بطبيعة الحال، بدليل أنّ إدارة العمليات بفصائلها الثلاثة لم تُقدم على فَرْضِ مظاهر سلفيّة داخل المساق الاجتماعي العام للمدن التي حرّرتها من النظام السابق، وهي مدنٌ متنوعةُ المكوّنات، ولا تختبئ داخل منظورٍ واحد متجانس التمثيل، فاختفت هواجسُ المصادرة والإلغاء، التي من المحتمل أنّها نغّصت المزاج العام للمسيحيين، والعلويين، والإسماعيليين، والدروز، وغيرهم، حين كانوا ينظرون بقلقٍ كثير لما سيؤول إليه حالهم بعد وصول الإسلام السلفيّ إلى حكم سورية، ولعلّ الإبقاء على مظاهر الحياة العامّة كما هي قد ساعد كثيراً في تقبّل الخلفية الراديكاليّة للثوار (المجاهدين) وقائدهم (الفاتح)، وهذا كان موضع اتفاقٍ والتزام ما بينهم، ثوّار الشمال السوري، قبل بدء عملية ردع العدوان فجر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني.

الإبقاء على مظاهر الحياة العامّة كما هي ساعد كثيراً في تقبّل الخلفية الراديكاليّة للثوار (المجاهدين) وقائدهم (الفاتح)

وفي الأرض، لم يفرض المنتصر عسكرياً كما العادة عقيدته على الجغرافيا التي اكتسبها بالفعل العسكري، فأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يبدو معنيّاً هذه المرّة بأن يظهرَ رجل سياسة أكثر من أنْ يظهر رجلَ حرب، وإنّ باستطاعته تقديم نفسه داخلياً وإقليمياً ودولياً أنّه شخصيةٌ معتدلة، لا متطرّفة، ومتّزنة في خطابها السياسي، ومتكيّفة أيضاً، وهذا بالضبط ما جعل هذه السلطة الناشئة في سورية الجديدة، تنال قبولاً من الجميع، بمن فيهم الولايات المتحدة، والتي بدأت جدّياً في بحث رفع عقوبات عن سورية، لأجل تمكينها من النهوض مُجدَّداً، ومثلها فعلت الحكومة البريطانيّة، حين أعادت النظر بتصنيفها هيئة تحرير الشام منظّمةً إرهابيةً متطرّفةً، فمن المهم إذاً أن تستنهض إدارة العمليات العسكرية تلك الصورة الجديدة لها، المغايرة لما كان يوحي به سلوكُ جبهة النصرة، أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وحسناً فَعَلَ الثوار حين حرّروا مدن الساحل السوري من دون ترويع الطائفة العلوية، واستطاعوا الفصل بين العداء للنظام البائد والسكّان المحلّيين الذين عانوا كما باقي السوريين من تسلّطِ ويلات حكم الأسد عليهم، اكتفوا بإحراق قبر حافظ الأسد فقط، في مدينة القرداحة، وإزالة رموز النظام برفقة أهل المكان أنفسهم.
غير أنّ ما زعزع الفرح السوري بملاقاة بلادٍ نظيفة من عائلة الأسد وأعوانه، كان مُعتقَل صيدنايا، ذاك البكاء الذي جاء حافياً من قاع الجحيم ليلطم وجه الجميع، فالأيام التي تلت سقوط نظام بشّار الأسد، كانت تتعثّر دوماً بمشاهد الناجين من الهولوكوست النازيّ لحكم الأسد، أو بمرويّاتٍ حيّة أخذَ يبثّها لنا المُعتقَلون الأحياء عن عذاباتٍ لم تسكتْ في أقبية (وزنازين) السجن الأكثر رعباً في العالم. ذلك كلّه، جاء على هيئة سردٍ بصريٍّ تسابق إلينا ليستردَّ حصّته الغائبة من الانتباه والمتابعة، فأنهك الوجوه الفَرِحة حين ارتطم بها. كنّا نسمع عن وجه معتقلٍ يافع من داريا أذابه السجّان حين مرّر فوقه جهازاً يُلحم به الحديد، أو عن شابٍ صُفّي فوراً بسبب اسمه واسم مدينته (عمر من الرستن)، وعن أجسادٍ ذابت ببطء فوق شمعة تحترق تحتها، وأخرى قطّعتها آلات النجارة. أمّا من يموتون هناك، فإن أجسادهم يسحقها مكبسٌ هيدروليكيّ ضخم، ثمَّ يُذيبُ السجّانون خلاصة الأجساد تلك بالأسيد. رأينا معتقلاً ناجياً بعظام صدرٍ ناتئةٍ من فرط الجوع، ومعتقل آخر يجلس على سرير وكأنهٌ تحصّن به، لا يودُّ مفارقته كائناً شبحياً ظنناهُ مستخلصاً من أحد أفلام هيتشكوك المرعبة. وعن معتقلةٍ روت عذاباتِ اغتصابٍ جماعيّ لها، ولها ثلاثة أطفال أنجبتهم هناك، وعاشوا معها فترة اعتقالها.

زعزع معتقل صيدنايا الفرح السوري بملاقاة بلادٍ نظيفة من عائلة الأسد وأعوانه

اعتقلت أخبار سجن صيدنايا أفراح السوريين بالتحرير، وقادت انتباههم إلى هناك مرّاتٍ عديدة كلّ يوم، ليروا مزيداً من سراديب جهنم، وليسمعوا مزيداً من سرديات الرعب، فيما هم ينتظرون أن تجد فرق البحث باب الجزء الأحمر من السجن، الذي ينفتح على ثلاثة طوابق مخفيّة تحت الأرض، كما كنّا نسمع، بعدما تمَّ تحرير معتقلي الجزء الأبيض (كما يُسمى) من السجن. وتلك أيّامٌ تناوب فيها الفرح والبكاء والدهشة على وجوه الناس، إذ كيف يُخفي ذلك المكان النائي الذي يحتلُّ تلّةً قربُ مدينة صيدنايا (30 كيلومتراً شمال شرق العاصمة دمشق) كلَّ تلك الوحشيّة والساديّة المفرطة، والتي لا تُقاسُ بوصفٍ، ولا تُفهم على الإطلاق، والسجن المذكور افتتح عام 1987 سجناً عسكرياً، لكنّه سرعان ما تحوّل أبشع معتقلٍ سياسي يمكن لعقلٍ بشريّ تخيّله، وبحسب تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان في يناير/ كانون الثاني من العام 2021، فإن قرابة 30 ألف معتقل فارقوا الحياة هناك بسبب التعذيب وسوء المعاملة والإعدامات الجماعية، وكانت منظمة العفو الدولية قد قدّرت عدد الذين أُعدموا بلا محاكمات قضائية داخل سجن صيدنايا بين سبتمبر/ أيلول 2011، وديسمبر/ كانون الثاني 2015، بما بين خمسة آلاف معتقل و13500 معتقل.
لكن مسيرة آلام السوريين الطويلة انتصرت أخيراً على الطاغية. آن لها أن تفعل ذلك، وفعلت، ودخل الناس القصور الرئاسية في حلب ودمشق للمرّة الأولى، ثمّ خرجوا إلى الشوارع يحتفلون بانتهاء احتلال نظام الأسد للبلاد، ويتناقلون على مواقع التواصل الاجتماعي صور الطاغية الابن وأبيه، وهما بالثياب الداخلية، آن لهم أن يسخروا من، ويضحكوا على الذي استساغ إهانة آدميتهم تلك العقود كلّها التي مرّت، وآن لسجن صيدنايا أن يرتاح أخيراً من تصدير الموت والرعب لنا، "انقلع" الأسد إلى الأبد.

أيمن الشوفي
أيمن الشوفي
كاتب سوري، خرّيج جامعي في الصحافة، أصدر رواية في 2002.