جامعاتُنا وجامعاتهم... الفرق والخَلَل
تتصدّر منذ أيام أخبارُ ثورة الطلاب في الجامعات الأميركية عناوينَ قنوات الأخبار العالمية ومواقعها، وكأنّ الكلام يدور عن حدَث غير عادي، وغير معهود من ناحية الحجم والتفاعل، كما أنّه حدثٌ غير مُتوقع على ما يبدو لدى المجتمعيْن، الأكاديمي والسياسي، الأميركيين، سيما مع اتساع رقعته التي وصلت اليوم إلى بعض الجامعات الكندية والبريطانية والأسترالية، وإلى معهد العلوم السياسية في باريس. والمفاجأة الأكبر في هذا الحدث أنّ القضية التي يتّحد في نُصرتها هؤلاء الطلاب هي نفسها التي يتّحد في خذلانها الساسةُ الأميركيون، وأتباعهم من الغرب، فهؤلاء هم طلابهم وأولادهم، ولن يتمكّنوا من اتهامهم بكراهية الغرب أو معاداتهم القيم الحضارية. وأعجب مِنْ هذا وذاك، أنّنا معشر العرب في الشرق الغافي، رغم هذه اليقظة الكبيرة كلّها، ما زال دورنا مقصوراً، ويا للأسف، على المشاهَدة.
يَرقُبُ الواحد منّا ثورة الطلاب المشتعلة حالياً في الجامعات الأميركية بأربعة أعين. أولها، عينُ الفرَح؛ أنْ قَيَّضَ الله للشعب المذبوح في قطاع غزّة مَن ينصره، ويتضامن معه، ويدافع عنه، هناك في أقصى الأرض، في عقر دار الدولة الداعمة للإبادة الصهيونية، في وقتٍ استطاعت فيه وسائل الإعلام الحديثة، نقل الأحداث لحظياً ساعة وقوعها، ما جعل إخفاءها عن أعين الأحرار في العالم ضرباً من مستحيل. ومع استمرار تدفّق المَشاهد المُروّعة، التي تُبثّ على مدار الساعة من داخل القطاع، لم تحتمل نفوس الطلاب الأبيّة الحرّة مزيداً من صمت، فقرّروا القيام بما يمليه عليهم اشتراكُهم مع الضحايا في الإنسانية، والحقّ في الحرّية، ووقف الإبادة، فكانت ثورتهم عارمةً، صارخةً في وجه الإدارة الأميركية، فاضحةً للمشروع الصهيوني الاستعماري، وكاشفةً عن وجهه الحقيقي القبيح، وكاسرةً واحداً من "تابوهات" السياسة الأميركية، التي تتبنّى السردية الصهيونية، وهي سرديةٌ كان يُحظر الاقتراب منها أو توجيه النقد والاعتراض على سلوك الاحتلال، مهما بلغ من همجية. لكنّ ثورة الطلاب أنهَتْ عصر التغييب هذا، كما أطلقت، في الوقت ذاته، عصرَ الحقيقة، احتراماً لعقول الطلاب وذكائهم، ووقفاً لعملية الاستغباء، التي تجعل كلّ نقد واعتراض يُوجَّه إلى الكيان الصهيوني، مُوجّهاً إلى اليهود، لكن هؤلاء الطلاب الأحرار جاؤوا ليغيّروا هذا الثابت الزائف، وليقولوا إنّ انتقاد الاحتلال، ومهاجمة جيش الدولة اللقيطة، هو بسبب أنّها تمارس الإبادة بحقّ غزّة، منذ أشهر عدّة.
العين الثانية هي عين الفخر؛ الفخر بالغزّيين في القطاع، الذين حرّكوا أحرار العالم بصمودهم، رغم سيل الحمم الماطرة عليهم منذ أكثر من 200 يوم، كلّ يوم منها هو قيامةٌ صُغرى، فيها من الأهوال والقتل والرعب ما لا يمكن للكلمات تصويره ووصفه، لكنّ الكاميرات تكفّلت بذلك، وأثبتت أنّ الفلسطينيين في غزّة، لم ينكسروا تحت سطوة الجيش الإسرائيلي وقصفه الهمجي، فكان صبرُهم على الجراح، رسالةً عابرةً للقارات والمحيطات، قطعَت البحار والأنهار والقِفار، لتستقرّ في الوعي الجمعي للعالم الحُر، وبثّت الحماسة في نفوس طلاب جامعة كولومبيا ابتداءً، فيقودُ عمى البصيرة رئيسةَ الجامعة، نحو خيار استدعاء الشرطة لفضّ اعتصام الطلاب، ليكون شرارةً أشعلت الثورة في باقي الجامعات التي حُقَّ أن نضرب لها ولطلابها تعظيم سلام.
حسرة على جامعاتٍ عربيةٍ مَيتة سريرياً، لا أثر لها ولا صوت، لا لون، ولا طعم
العينُ الثالثة التي ترقب الحدث، هي عين الدهشة؛ تندهش أمام مشهد الطلاب الثائرين، وتندهش من الدافع والحافز الذي جعلهم يقفون في وجه الموجة العاتية، يدافعون عن عقولهم وإرادتهم من حيث المبدأ، رافضين اتهامهم بأنّهم مُضلَّلُون، فتحدى هؤلاء الطلاب تيّاراً عارماً ترعاه الإدارة الأميركية، يزيّف الحقائق، ويدعم الاحتلال، ويُحرّم أي مساس بالرواية الصهيونية. تندهش العين من إصرار هؤلاء الطلاب الأحرار على انتزاع حقّهم الدستوري الضامن حقَّ تظاهرهم وحرية تعبيرهم، تندهش من ثباتهم في وجه الشرطة والجيش اللذين حاولا تفريقهم، ولكنّهم يقولون لن نتحرك من مكاننا في بوسطن قبل وقف إطلاق النار في غزّة، تندهش من مغامرتهم بمستقبلهم العلمي والمهني، وعدم مبالاتهم بقرارات الفصل الجائرة في حقّهم، هذا كلّه، لأجل دعمِ شعبٍ بعيد عنهم جغرافياً ونُصرَتِهِ، لكنّه قريب منهم إنسانياً.
لَعَمري! ما الذي يتعلمه هؤلاء الطلاب في جامعاتهم الأميركية، وغير موجود في جامعاتنا العربية؟ هذا سؤال مركزي، يقودنا إلى العين الرابعة والأخيرة التي ترقب الحدث، وهي عين الحسرة؛ حسرة على جامعاتٍ عربيةٍ مَيتة سريرياً، لا أثر لها ولا صوت، لا لون، ولا طعم، ولكن رائحة مبانٍ جامعية فاحت من طول الركود، تحتاج إلى إنعاشات علّها تصحو من نوم عميق، وارتعاد الفرائص من بطش أنظمة ديكتاتورية مُتسلّطة، جعلَت من قمع الحرّيات، وتكميم الأفواه مُهمتها الكبرى، ووظيفتها الأولى. إنّ جامعاتٍ لم تُحرّكْها نخوةٌ عربية، ولا إنسانية، ولا حميّة أخلاقية لعشرات آلاف الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى، ومئات آلاف المشرّدين، لن تكون يوماً من الأيام منارةً للعلم أو الأخلاق أو الحرّية، ولا منارةً للشارع المجاور، على عكس الحال في جامعات مثل كولومبيا، التي كانت في عام 1968 من أوائل الكيانات الأكاديمية التي انتفضت ضدّ الحرب في فيتنام، وها هي اليوم تُثبت أنّها ما زالت تُورّث الحرية والإنسانية لطلابها، جيلاً بعد جيل، وصولاً إلى العام 2024.
يَرقُبُ الواحد منّا ثورة الطلاب المشتعلة حالياً في الجامعات الأميركية بأربع أعين. أولها، عينُ الفرَح
في خضمّ هذه التفاعلات، يبرز تساؤل كبير بحجم الحدث، وهو سؤال حول العامل الذي جعل طلاب تلك الجامعات الأميركية ينتفضون للمطالبة بحرية شعبٍ آخَر وإنصافِه، في حين أنّ طلاب الجامعات العربية، وجميع الأواصر التي تربطهم بالشعب نفسه أقوى من الأوجه كلّها؟... الجواب لا يتسع له مجال في مقالة صحافية، كما لا يمكن حصره في سبب أو سببين... أو عشرة، لأنّ الجواب يَجرّنا مُرغمين إلى الحديث عن منظومة كاملة من أساليب التربية وطرائقها في تلك المجتمعات والجامعات، كما يجرنا إلى الحديث عن دولة المؤسّسات، ومبادئ التكافل الاجتماعي، ومناهج التدريس، واحترام القيم، وممارسة الحرّية، ومنظمات المجتمع المدني، واحتكام الجميع للدستور والقانون. بدءاً من الرئيس، وصولاً إلى أصغر مواطن.
هذه العوامل كلّها، وغيرها، تسهم مجتمعة في ولادة مثل هذه النفوس الأبيّة لدى الطلاب الجامعيين، وقد رأينا أنّ المعلّم الحرّ سيخرّج للمجتمع طالباً حُرّاً، وانظر لو أحببت إلى عدد الأساتذة الذين اعتُقلوا مع طلابهم، وانظر إلى أهالي هؤلاء الطلاب يهرعون لدعم أبنائهم وبناتهم، من خلف أسوار الجامعة المُحاصَرة، ويمدّونهم بالماء والطعام، ويحثّونهم على الثبات، الثبات من أجل تأكيد حقّهم في التظاهر وحرّية التعبير، بالقدر نفسه من الثبات لأجل الفلسطينيين في غزّة، وفي كل ما ذُكر أعلاه، أملٌ كبيرٌ، في حرّية قريبة لشعب فلسطين، وعدالة واجبة لقضيته الشرعية، لأنّ طلاب اليوم هم قادة المستقبل.