جبريل الرجوب .. بساطة الكلام والطموح المعقّد
قسمات وجهه توحي بالجدّية، ويبدو في معظم صوره عابسًا، الأمر الذي يجعل الاسم الملائم له "عبّاس". لكن، ثمّة عبّاس واحد في الضفة الغربية، هو الرئيس محمود عبّاس الذي يتوشّح محيّاه بملامح السماحة واللطف، ربما لأن لأبو مازن من اسمه نصيبًا. والمازن هو الأبيض مثل بَرَد السماء أو بيض النمل وما في حكمهما. وفي جميع البلاد والأقطار، فإن الجميع يمتثل لجبريل، إلا في فلسطين، فإن جبريل يمتثل لعبّاس إلا في ما ندر، وفي الأمور غير الأساسية بالتحديد. ومع ذلك، لجبريل الرجوب شعبية تتسع وتضيق بحسب تقلبات الأهواء السياسية، وقد أكسبتهُ الاعتقالات المتكررة شهرة بين أبناء شعبه، وثقةً بالنفس على طريقة مراجل القرى في محافظة الخليل، حتى أنه تجرأ في إحدى المرات على القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) في أثناء اجتماع موسّع في تونس. كان أبو إياد يعرض تقديرًا للموقف، ينتقد فيه الأداء السياسي لياسر عرفات، فما كان من جبريل الرجوب، وكان خارجًا للتو من السجن الإسرائيلي في عام 1988، إلا أن قاطعه بحدّة وتصدى له قائلاً: مين أبو إياد هادا! نحن في الضفة لم نكن نسمع شيئًا عن أبو إياد، ولا نعترف إلا بقائد واحد هو ياسر عرفات. وتضاحك أبو إياد، فيما ابتسم أبو عمار معتبرًا تلك الجرأة من "حواضر البيت الفتحاوي". وأُضيف إلى ذلك ترؤس الرجوب "الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم"، علاوة على المجلس الأعلى للشباب والرياضة واللجنة الأولمبية الفلسطينية وجمعية الكشافة والمرشدات، وهذا كله منحه حضورًا قويًا في صفوف الشبان. وقد جاءته تلك المناصب من دون جهد كبير؛ ففي فلسطين يتزاحمون على المواقع السياسية، لا على المواقع الثقافية والرياضية، خلافًا للمشهور في دول العالم، حيث إن السياسيين يجهدون لشراء أندية رياضية، أو لتأسيس أندية تتيح لهم اكتساب شعبية وجماهيرية. وجبريل الرجوب، إلى خصاله تلك، عنيدٌ ومشاكس، وغضوبٌ إذا تعلّق الأمر باعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين. وفي إحدى المرات، هدّد المستوطنين بالقتل، وخاطبهم قائلاً: إن أي مستوطن إذا دخل مناطق السلطة الفلسطينية، واعتدى على أي مواطن، عليه أن يكون حذرًا لأنه لن يغادر حيًا.
ولد جبريل الرجوب (أبو رامي) في بلدة دورا الخليل في 14 /5 /1953، أي في ذكرى النكبة الفلسطينية. واعتُقل أول مرّة في عام 1968 بتهمة مساعدة ضباط مصريين على التخفّي بعدما تقطعت بهم السُبل في حرب حزيران 1967. وفي السجن تعرّف إلى أبو علي شاهين (عبد العزيز شاهين) الذي ضمّه إلى حركة فتح. واعتقل ثانية في 1970 بتهمة تنفيذ عمليات عسكرية ضد الجيش الاسرائيلي، وأُطلق في 20/5/1985 خلال تبادل أسرى، وفي أثناء هذا الاعتقال الطويل تعلم العبرية. وأعيد اعتقاله في 1985، ثم مجددًا في 1986، وتكرر الأمر في 1987، وبقي في السجن حتى إبعاده إلى لبنان مع مَن أُبعد آنذاك في ذروة الانتفاضة الأولى عام 1988. لكنه لم يلبث أن غادر لبنان إلى تونس، وعمل إلى جانب الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في لجنة الانتفاضة.
يحاول الرجوب أن يجد له مكانًا في خضم التنازع على الأمكنة، من دون أن يسير في الطابور
عاد إلى الضفة الغربية في عام 1994 غداة تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية. ولما لم يكن مسموحًا للسلطة تأسيس جيش وطني، فقد بادر ياسر عرفات إلى إنشاء عدة أجهزة أمنية، وعَيّن جبريل الرجوب رئيسًا لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية برتبة عقيد. ومنذ ذلك التاريخ، صار واحدًا من أصحاب الرؤوس الحامية، فرفض أن ينصّ أي تفاهم أمني مع إسرائيل على إلزامه تسليم المطلوبين إلى سلطاتها. ولم يتورّع عن سوق الصحافي الراحل سميح سمارة، مدير الاذاعة الفلسطينية، من القدس إلى رام الله، فاحتجّت إسرائيل، لأن ذلك يُعتبر انتهاكًا لـِ "حدود دولة إسرائيل"، ولأن الرجوب تصرّف في مدينة القدس كصاحب سلطة. واصطدم بصخر حبش (أبو نزار) صاحب القصيدة المشهورة "لازم تزبُط"، وهو العضو المحترم في اللجنة المركزية لحركة فتح، والذي ضاق به وبتجاوزاته، فاستصدر قراراً ينصّ على تجميد عضويته في "فتح" ستة أشهر. فما كان من جبريل الرجوب إلا أن مدّ لسانه لقرار التجميد. واضطر عرفات إلى إقالته من منصبه، وعيّن حسين الشيخ بدلًا منه، لكن الأخير لم يتمكّن من دخول مقر الأمن الوقائي كي يمارس مهماته منه، ما أدّى إلى إعادة الرجوب، في ما بعد، إلى منصبه. والواضح أن السبب الأساس في تلك المصادمات أن الأجهزة الأمنية عملت، بعد اتفاق أوسلو مباشرة، في فضاء أمني من دون نظام قضائي، وبلا دستور، وبلا تحديد التخوم بين كل جهاز وآخر، الأمر الذي تسبّب في تضارب السلطات والصلاحيات، وفي طغيان الأمني على السياسي.
اضطر عرفات إلى إقالة الرجوب من منصبه، وعيّن حسين الشيخ بدلًا منه
انتُخب جبريل الرجوب عضوًا في اللجنة المركزية لحركة فتح في مؤتمرها العام السادس سنة 2009، واختير أميناً لسر اللجنة المركزية في عام 2017. وفي 31 /3 /2021 أحيل إلى التقاعد من وظائفه الأمنية برتبة فريق، وهي رتبةٌ لم يحصل عليها غير نصر يوسف (مصطفى البشتاوي). ويتطلّع جبريل الرجوب، من غير أي إفصاح، إلى تولي رئاسة السلطة الفلسطينية فيما لو اضطر الرئيس أبو مازن إلى تفويض صلاحياته التي ينوء تحت ثقلها، فهو رئيس حركة فتح، ورئيس السلطة الفلسطينية (دولة فلسطين تحت الاحتلال)، ورئيس المجلس التشريعي منذ عام 2011 حين حلّت المحكمة الدستورية ذلك المجلس، وصار من مهماته إصدار المراسيم التشريعية. ولا ريب أن صلاحيات الرئيس محمود عبّاس تحتاج إلى قيادة ثلاثية لتأمين حسن سيرها: رئيس لحركة فتح، ورئيس للسلطة الوطنية، ورئيس لمنظمة التحرير، فضلاً عن رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس التشريعي المنتظر. ويحاول جبريل الرجوب أن يجد له مكانًا في خضم التنازع على الأمكنة، من دون أن يسير في الطابور، وكانت آخر مواقفه المتفردة أنه وقف ضد قرار تأجيل الانتخابات التشريعية، فيما دافع عزّام الأحمد واللواء ماجد فرج (مدير المخابرات العامة) بقوة عن قرار تأجيل الانتخابات. وفرج أحد المرشحين لخلافة أبو مازن.