جدل القاعدة الدستورية في ليبيا
تواجه البلدان التي تمرّ في مراحل الانتقال السياسي أو التي تحاول الخروج من فوضى الحروب الأهلية تحدّيات عديدة تتعلق ببناء النظام الجديد. ولا تخرج ليبيا عن هذا الإطار في ظل التحدّيات المتعلقة باستعادة وحدة البلاد، وإنهاء سيطرة المليشيات وتجديد المؤسسات المتآكلة التي تخضع لنفوذ قيادات سياسية وحزبية، هي ذاتها من أسباب الأزمة، وأحد مظاهرها وتجلياتها. وقبل هذا كان من الضروري التوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، باعتبارها الوثيقة الحاكمة لمجمل الأوضاع والعلاقات في الدولة، بما يسمح بإصلاح جهاز الحكم وإعادة تأهيل المؤسسات التي تآكلت وفقدت شرعيتها.
مع فشل تنظيم الانتخابات الرئاسية في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عاد التنازع بين القوى الليبية المختلفة بشأن أولويات المرحلة. وعلى الرغم من تأكيد مختلف الأطراف على أهمية تنظيم الانتخابات، إلا أن الخلاف ظل مستمرا بشأن موعدها وطبيعة إدارة المرحلة الانتقالية، خصوصا في ظل تصعيد حكومة موازية برئاسة فتحي باشاغا، لتتنازع مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وهو ما زاد في تأزيم الأوضاع. وبالنظر إلى الدور الذي تضطلع به الأمم المتحدة، عبر ممثليها، في محاولة بناء الثقة بين الأطراف المختلفة ودفعها نحو الحوار، طرحت المستشارة الأممية (الأميركية) ستيفاني وليامز مبادرة تتمثل في تشكيل مجلسي النواب والدولة لجنة مشتركة (6+6) لإعداد قاعدة دستورية تمهيدا لإجراء الانتخابات، ووضعت آجالا لتقديم المجلسين ممثلين لهما ضمن اللجنة خلال 14 يوما ابتداءً من 15 مارس/ آذار الجاري.
الحسابات الضيقة للقوى السياسية المختلفة في ليبيا أصبحت عائقا حقيقيا أمام استكمال المسار الدستوري للبلاد
وفيما قدّم المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، في 14 مارس/ آذار، 12 عضوا، بدل ستة، في اللجنة المشتركة، لإعداد القاعدة الدستورية، تجاهل مجلس النواب اختيار الأعضاء الذين سيمثلونه في اللجنة، رغم مرور الآجال المحدّدة بـ15 من الشهر نفسه. ويكشف سلوك المجلس النيابي، برئاسة عقيلة صالح، عن توجه واضح إلى إفشال المبادرة الأممية عبر تجاهلها، على الرغم من حرص ستيفاني وليامز على بدء المناقشات مع ممثلي المجلس الأعلى للدولة بشأن مبادرتها وسبل التقدّم نحو تشكيل اللجنة المنوطة بها صياغة القاعدة الدستورية.
أكيد أن الانقسام السياسي الحادّ، والذي اتخذ منحى آخر مع إعلان تشكيل حكومة موازية، يمثل عبئا حقيقيا على المستشارة الأممية، وضمان نجاح مبادرتها، على الرغم من حصولها على دعم قوي من المجتمع الدولي، ومن الرؤساء المشاركين لمجموعة العمل السياسية، التابعة للجنة المتابعة الدولية بشأن ليبيا، بالإضافة إلى دعم الولايات المتحدة وبريطانيا، غير أن كل هذه الضغوط لم تمنع رئيس مجلس النواب من مواصلة توجهاته القائمة على اعتماد خريطة الطريق التي أقرّها المجلس، وتؤكد على دور لجنة الخبراء المكلفة بتعديل النصوص الخلافية في مشروع الدستور، رغم انسحاب ممثلي المجلس الأعلى للدولة منها. وما زاد في إثارة الجدل والخلاف بشأن القاعدة الدستورية تشكّل كتلة برلمانية معارضة تضم قرابة خمسين نائبا، وتطلق على نفسها "برلمانيون ضد التمديد"، تأسّست في 7 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وتهدف، بحسب مؤسّسيها، إلى رفض استمرار جميع المؤسسات الليبية العليا (البرلمان والمجلس الأعلى الدولة) في السلطة، إضافة إلى دعم المسار الانتخابي و"إصلاح" مجلس النواب. وأكّدت هذه الكتلة، في بيان تأسيسها، رفضها ما اعتبرتها محاولة رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، "الاستفراد" باختيار ممثلي المجلس في لجنة القاعدة الدستورية الخاصة بالانتخابات، مطالبة البعثة الأممية باختيارهم عبر الدوائر والتواصل المباشر مع الأعضاء.
الأزمة الحقيقية في ليبيا تكمن في العقلية الإقصائية التي أنتجتها سنوات الحرب الأهلية
من الواضح أن الحسابات الضيقة للقوى السياسية المختلفة أصبحت عائقا حقيقيا أمام استكمال المسار الدستوري للبلاد، والخروج من حالة التشرذم الحالي نحو بناء مؤسسات دستورية أكثر استقرارا.
مجلس نواب طبرق، برئاسة عقيلة صالح المتحالف مع مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والمساند الفعلي لحكومة فتحي باشاغا، يسعى فعليا نحو إبطاء المسار الانتخابي وتعطيل حسم الخلافات المتعلقة بالقاعدة الدستورية، رغبة منه في ربح مزيد من الوقت، عبر التلكؤ في اختيار ممثليه في لجنة الحوار التي اقترحتها المستشارة الأممية، ستيفاني وليامز، وهو في الوقت نفسه، يراهن على الضغط الروسي لتعيين مبعوث أممي جديد خلفا للسلوفاكي يان كوبيتش، وعدم التجديد للأميركية وليامز التي ينتهي عقدها في شهر إبريل/ نيسان الحالي.
الأزمة الحقيقية في ليبيا تكمن في العقلية الإقصائية التي أنتجتها سنوات الحرب الأهلية، ولا يرغب أصحابها في إكمال البناء الدستوري للنظام السياسي، بل وترغب هذه القوى في الانفراد بوضع القواعد الدستورية وحسم الخلاف بشأنها، وهو ما يمثّل خطرا فعليا يتجلى في استخدام مواد الدستور سلاحا في حلبة الصراع السياسي لإقصاء طرف لحساب أطراف أخرى، وهو ما يهدّد دوما بإعادة تفجير الوضع العام، خصوصا في ظل استمرار توازن الرعب بين القوى المسلحة المنتشرة على كامل مساحة البلاد.