جريمة إبادة سكان غزّة أمام "العدل الدولية"
تقدّمت جنوب أفريقيا بدعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية للنظر في ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جريمة الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزّة. وكانت جنوب أفريقيا من الدول التي اتخذت مواقف جادّة تجاه العدوان الإسرائيلي على القطاع، حيث جمّدت علاقتها الديبلوماسية مع إسرائيل، وأغلقت السفارة الإسرائيلية لديها، إلى أن يتم وقف شامل لإطلاق النار. تختصّ محكمة العدل الدولية بتحديد المسؤولية الدولية للدول، وإقرار التزاماتها في جبْر الضرر والتعويض عن انتهاكات قواعد القانون الدولي. ليست المحكمة طرفاً في تحديد المسؤولية الجنائية الفردية، والتي تعدّ من اختصاص محكمة الجنايات الدولية، والتي يحقّق مدّعيها العام حالياً في مجمل الجرائم التي ارتُكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 13 يونيو/ حزيران 2014. سيفتَح نجاح القضية أمام محكمة العدل الدولية عبر التأسيس القانوني لتورّط دولة إسرائيل في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أفقا أوسع لدعم القضايا المتعلقة بالمسؤولية الجنائية الفردية لكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين في الاحتلال الإسرائيلي لملاحقتهم الجنائية، سواء أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال المحاكم الأجنبية ذات الاختصاص القضائي العالمي على الجرائم الدولية، والتي منها الإبادة الجماعية.
يتطلب التقاضي أمام "العدل الدولية" رضى أطراف النزاع على تدخّل المحكمة للتحكيم بشأن النزاع الدولي بينهم، لكن بعض اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية تتيح لجوء أي دولة طرف في هذه الاتفاقيات للمحكمة في مواجهة طرفٍ آخر في حال انتهاكه بنود هذه الاتفاقات. وهذا ما تتيحه الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي جرى تبنّيها في 11 ديسمبر/ كانون الأول عام 1946، وتعدّ الاتفاقية الحقوقية الأولى التي صدرت بعد تأسيس الأمم المتحدة. تعاقب الاتفاقية على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتآمر والتحريض المباشر والعلني أو الاشتراك أو مجرّد محاولة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. تحتفظ المحكمة بالاختصاص نفسه في ظل اتفاقية مناهضة التعذيب، والتي على أساسها تنظر حاليا المحكمة في شكوى قدّمت في يونيو/ حزيران 2023 من كلّ من كندا وهولندا ضد نظام بشّار الأسد في سورية لارتكابه المنهجي جريمة التعذيب.
من غير المتوقّع أن تُحدِث القرارات العاجلة لمحكمة العدل الدولية أثراً على الأرض إذا لم تكن مدعومةً بتوجّه سياسي وإجراءات عقابية من المجتمع الدولي
وقد أحيلت إلى "العدل الدولية" أربع قضايا تتعلق بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية: ضمّت الأولى البوسنة والهرسك ضد صربيا عام 1993، وكانت القضية الأولى التي تتعامل فيها المحكمة مع جريمة الإبادة الجماعية، والتي خلصت إلى وقوع إبادة في سربرنيتشا حيث قتل نحو ثمانية آلاف مسلم على يد قوات صرب البوسنة. وضمّت القضية الثانية جمهورية الكونغو الديمقراطية ضد رواندا عام 2002، والتي رفضت المحكمة النظر فيها لأسبابٍ إجرائية. ورفعت القضية الثالثة غامبيا ضد ميانمار، والتي أحيلت إلى المحكمة عام 2019. والملفت أن الولايات المتحدة دعمت هذه القضية في إطار توجّهها السياسي ضد الحكومة العسكرية في ميانمار، وفي سياق التنافس الجيو - سياسي مع الصين، عبر إعلانها في مارس/ آذار 2022، أن تحقيقاتها أثبتت تعرّض مسلمي الروهينغا لجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية. وتضمّ القضية الرابعة أوكرانيا ضد روسيا، وأحيلت إلى المحكمة عام 2022، وما زالت تنظرها.
تضم لائحة الدول المُصادِقة على الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها 15 دولة عربية، لكن من المؤسف أن دولا فيها كانت قد تحفّظت على الاختصاص الذي منحته الاتفاقية لمحكمة العدل الدولية، والذي أتيح الآن لجنوب أفريقيا تحريك هذه الدعوى القضائية ضد إسرائيل. إلا أنه يمكن لكلٍّ من الجزائر، ومصر، والعراق، والأردن، والكويت، ولبنان، والسعودية، وتونس، والتي قبلت اختصاص المحكمة، بموجب الاتفاقية، أن تنضمّ أطرافا داعمة لجنوب أفريقيا في الدعوى القضائية، وتشجيع دول أخرى من خارج المجموعة العربية للانضمام للقضية، وتوفير كل الإمكانات القانونية والموارد المطلوبة لدعم مسار هذه القضية. تحدّد المادة الثانية في اتفاقية الأمم المتحدة عدة أفعال، مثل القتل، وإلحاق الأذيين الجسدي والمعنوي، أو إخضاع جماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، والتي تعدّ بمثابة ارتكاب لجريمة الإبادة الجماعية فقط إذا ما كان ارتكابُها يتم بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية. ويبقى التحدّي التقني أمام المحاكم الدولية في توصيف جرائم ما على أنها جرائم إبادة جماعية تتمثل في إثبات القصد الجنائي الخاص، الذي يؤسّس لنية ارتكاب حريمة الإبادة الجماعية، وتوافر هذا القصد الخاص هو ما يميّز ارتكاب هذه الجريمة عن ارتكاب جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. وقد أدّى عدم توافر هذا الركن المعنوي الخاص إلى استبعاد ارتكاب جرائم إبادة في معظم الوقائع التي عُرضت على المحكمة في قضية البوسنة والهرسك.
يمكن لكلٍّ من الجزائر ومصر والعراق والأردن والكويت ولبنان والسعودية وتونس أن تنضمّ أطرافاً داعمة لجنوب أفريقيا في الدعوى
قد تبدو هذه المعايير التقنية عبثيّة لغير المختصّين، والمتابعين للجرائم التي تُرتكب يومياً في قطاع غزّة على الهواء مباشرة، ولكن لا بديل سوى بالاشتباك مع هذه التقنيات لتحقيق النجاح السياسي والقانوني في معركةٍ عادلة من الناحية الأخلاقية. تضمّ المذكّرة التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا توثيقا مفصلا لما يُثبت نية ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جريمة الإبادة الجماعية، والتي تتمثل في تصريحات إعلامية وسياسية عدائية وتحريضية عديدة لكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين على مدار الشهور التالية لبدء العدوان، ويتّضح منها نية الاحتلال الإسرائيلي لإحداث تدمير كلي أو جزئي لسكان قطاع غزّة. وتنسب أبرز هذه التصريحات إلى وزير الزراعة، ومنسّق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ووزير الدفاع، ورئيس الوزراء، ورئيس الدولة، وغيرها من تصريحات لشخصيات سياسية وعسكرية وإعلامية بارزة في المجتمع الإسرائيلي. وعندما توضع هذه التصريحات مع ما جرى ويجري من أفعال في قطاع غزّة من قتل وإلحاق أذى جسدي وعقلي، وفرض ظروف حياة تؤدّي إلى تدمير الفلسطينيين في قطاع غزّة جسدياً فإنها تثبت أن هناك جريمة إبادة جماعية تجري وتتطوّر في القطاع.
سيكون على محكمة العدل الدولية البتّ، أولاً، في إقرار الإجراءات العاجلة التي طالبت بها جنوب أفريقيا، والتي يتمثل أهمها في الوقف الفوري للأعمال العسكرية في قطاع غزّة إلى حين الانتهاء من القضية أمام المحكمة. ومن المرجّح ألا تلتزم إسرائيل بهذه القرارات العاجلة إن أصدرتها المحكمة في وقت قريب، في ظل فشل مجلس الأمن في إصدار قرارٍ مُلزمٍ بموجب الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار بسبب التدخلات الأميركية. ومن غير المتوقّع أن تُحدِث القرارات العاجلة لمحكمة العدل الدولية أثرا على الأرض إذا لم تكن مدعومةً بتوجّه سياسي وإجراءات عقابية من المجتمع الدولي، فسابقاً أصدرت المحكمة قرارا عاجلا بوقف العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى حين البتّ في القضية التي ضمّت أوكرانيا وروسيا، ولم تلتزم روسيا بقرار المحكمة، واستمرّت العمليات العسكرية. ولوضع الأمور في نصابها، سيكون لتدخّل "العدل الدولية" للنظر في العدوان الإسرائيلي الجاري على قطاع غزّة أهميته في مرحلة لاحقة عندما يؤكّد قضاة المحكمة انتهاك إسرائيل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتأسيس القانوني إلى وقوع جريمة الإبادة الجماعية. وإذا نجحت هذه المحاولة فستكون خطوة مفصلية في مسار إقرار العدالة للشعب الفلسطيني.