جريمة العصر: ليس للشقيق أن يكون وسيطاً
مظاهرة مليونية واحدة يسمح بها كل بلد عربي دعمًا للشعب الفلسطيني، يمكن أن تكون أقوى ألف مرّة من أوراق التفاوض والوساطة التي تستخدمها النظم الرسمية العربية مع المجتمع الدولي بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة.
مليونية في توقيتٍ واحدٍ في كل عاصمةٍ عربيةٍ يمكنها أن تلجم الصهيوني عن عدوانه، وتنزل الأميركي والأوروبي من علياء وقاحته وأكاذيبه على التاريخ وعلى اللحظة الراهنة. والأهم أنها ستكون للصمود الفلسطيني أبلغ أثرًا من شحنات مساعداتٍ مادّية، وستجعله قادرًا على مواصلة المعجزة العسكرية التي يدوّن سطورها في هذه الجولة من الصراع.
ليس مطلوبًا من النظام الرسمي العربي سوى عقد قمّة سريعة على أعلى مستويات القيادة، تجتمع على بند واحد يقول: فلسطين دولة شقيقة، وكل عدوانٍ عليها هو عدوانٌ على كل العرب، بدلًا من الظهور على هذه الحالة من الخضوع لابتزاز وزير الخارجية الأميركي الذي يهين الذات العربية في جولته.
مطلوبٌ فقط أن يقول العرب للعالم إنهم أشقّاء لفلسطين، لا وسطاء بينها وبين سارقيها ومغتصبيها، ووقتها ستكون معادلةً جديدةً في الصراع تفرض نفسها على الجميع.
في هذه الأجواء، يمكن القول إن المقاربة الرسمية المصرية من جولة الحرب الحالية بين الاحتلال (العدو) الصهيوني من جانب، والمقاومة الوطنية الفلسطينية من جانب آخر، لم ترتقِ إلى حالة الشقيق الذي يعتبر العدوان على شقيقه عدوانًا عليه، لكنها كذلك لم تنخفض إلى ما دون حالة التاجر المتربّح من الأزمة، على الأقل حتى الآن.
في الأثناء، تنشط الدوائر السياسية الدولية، الرسمية، بوقاحةٍ غير مسبوقة في محاولة فرض الصفقة الحرام على الجانب المصري، الغارق في الديون والقروض حتى قدميه، بكلام سافر وسافل في الوقت ذاته، مضمونُه ما نشرته مجلة ذي إيكونوميست أمس استباقًا لوصول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى القاهرة في ختام جولة الابتزاز والبلطجة على الأنظمة العربية، إذ تحدّثت المجلة صراحة عن سيناريو الترانسفير مدفوع الثمن للشعب الفلسطيني من غزّة إلى مصر، سيناء ومناطق أخرى، لقاء إسقاط الديون والقروض التي جعلت القرار الوطني المصري سجين النظام الغريق الذي يبحث عن قشّة، أية قشّة تجعله مستمرًا على قيد الحياة.
تتساءل "ذي إيكونوميست" في العنوان: هل يمكن إقناع مصر بقبول لاجئي غزة؟ وتكرّر السؤال في المتن غير مرّة: هل يمكن لعملية الإنقاذ المحتملة للاقتصاد المصري المتضرّر من الأزمة أن توفّر للدبلوماسيين الأجانب وسيلةً للتأثير؟
وتشير إلى أن مصر "قامت بمثل هذه الصفقة من قبل. وفي عام 1991، بعد ثلاثة أشهر من حرب الخليج، سمحت أميركا ودول غربية أخرى لمصر بالإفلات من مأزق اقتراض 10 مليارات دولار، وهو ما كان يمثل ربع ديونها الخارجية في ذلك الوقت. وكان هذا أيضًا مكافأة لخدمة جيوسياسية".
قبل المجلة الاقتصادية ذائعة الصيت، كان الإعلامي المصري الناطق بما يُملى عليه رسميًا، يتحدّث عن الصفقة ذاتها، بالتفاصيل والمقارنات ذاتها، حالة مصر حسني مبارك، وحالة مصر عبد الفتاح السيسي، غير أنه كان يتحدّث منطلقًا من موقف النفي والرفض القاطع لهذه الصفقة، التي إن وقعت ستكون أشدّ إجرامًا من جريمة العصر التي تحدّث عنها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين في العام 1990 ومات كمدًا وهو يراها تمر بتواطؤ صامتٍ من النظام الرسمي، وهي جريمة تهجير اليهود السوفييت إلى فلسطين المحتلة، لتغيير البنية الديموغرافية لصالح الاحتلال الصهيوني.
هذه المرّة، تضغط واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون، على شركائها وأتباعها الإقليميين من أجل المشاركة في جريمة عصرٍ عكسيةٍ لمصلحة الاحتلال الصهيوني، من خلال عملية ترانسفير جديدة للشعب الفلسطيني من غزّة وتوزيعه على المنافي العربية، لكي تضمن لإسرائيل احتلالًا هادئًا ومطمئنًا ومرفّهًا، لا تزعجه أصوات المقاومة.
حتى الآن، ووفق الخطاب الرسمي الصادر من مؤسّسات الدولة المصرية، وبشكل خاص القوات المسلحة ومجلس الأمن القومي، ثمة رفض قاطع لصفقة تهجير شعب غزّة إلى الأراضي المصرية، حيث شدّد المجلس في ختام اجتماعه أمس على "رفض واستهجان سياسة التهجير أو محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار" بحسب البيان الرسمي المنشور، وهذا موقف جيد.
على أنه من الناحية الأخرى لا يمكن تصوّر أن مصر العربية (الشقيقة الكبرى) تجلس في انتظار الإذن الإسرائيلي لإدخال المساعدات ومواد الإغاثة المكدّسة في ميناء العريش منذ أيام إلى غزّة، كما لا يصحّ أن يستمر الصمت على حمامات الدم الفلسطيني في غزّة مرهونًا بنجاح صفقة إجلاء المواطنين الأميركيين والغربيين مقابل إدخال مساعدات الإنقاذ، ذلك أن الجهد العربي كله ينبغي أن ينطلق من أن الذين تحصُدهم آلة القتل الإجرامية هم أشقّاء، وليسوا مجموعات بشرية يمارسون أعمال الوساطة عليها.