جريمة على المعبر
الصمتُ أمام الروايات القادمة من معبر رفح عار، والاكتفاء بالقول إن ما تنشُره صحفٌ عالمية، وتعجّ به حسابات "السوشيال ميديا" عار أكبر، إذ لا يجدي هنا الادّعاء إن صحيفة الغارديان البريطانية تكره مصر وتفتري عليها وتنسج حكاياتٍ من الوهم بغرض الإساءة، كما لا يجوز اتهام المكتوين بنار المعاناة عند المعابر بأنهم كاذبون.
الحكايات كثيرة، وكلها تدعو إلى الخجل عن مافيا الرشاوى التي تستثمر في الدم الفلسطيني، وتبيع وتشتري في الجرح النازف منذ مائة يوم في غزّة، وهي الحكاياتُ التي يجري تداولها منذ أسابيع عن الإتاوات المفروضة على كل جريح فلسطيني يريد الخروج من المعبر للعلاج في الخارج، والتي تصل، في بعض الأحيان، إلى عشرة آلاف دولار.
نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تحقيقًا موسعًا أول من أمس اشتمل على شهادات مروّعة لفارّين من القصف، بحثًا عن علاج جرحاهم في الخارج، والعالقين عند المعبر ينتظرون الخروج، تؤكّد أن الفرار من ويلات الحرب، بات يتطلّب تقديم رشاوى لسماسرة مرتبطين بجهاتٍ أمنيةٍ في الجانب المصري تبلغ نحو عشرة آلاف دولار عن كل شخص.
تفاقُم الأوضاع الصحية في غزّة مع بلوغ جنون العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وسط صمت مطبق وعجز كامل من الحكومات العربية عن إنقاذهم، أو بالأحرى عدم الرغبة في إنقاذهم، جعل الفلسطيني بين عذابيْن: عذاب القصف الإسرائيلي الهمجي وعذاب الابتزاز المادي على الجهة الأخرى عند معبر رفح، ويجري هذه الأوضاع الحديث عنها منذ فترة طويلة، غير أن نشرها بهذا التوسّع في صحيفة عالمية واسعة الانتشار، يجعل السكوت هذه المرّة مدعاة للخجل. إذ تكتب الصحيفة، في نهاية التحقيق، إن رئيس هيئة الاستعلامات المصرية، المسؤولة بشكل أساس عن الإعلام الخارجي وما ينشر فيه عن مصر، رفض التعليق على ما ورد من شهادات على لسان أصحابها.
والحال كذلك، لا يستقيم أن يأتي أحدٌ بعد هذا السكوت المعيب، ويرجع المسألة كلها إلى مؤامرة كونية على مصر، كما هو الحاصل منذ عشر سنوات كلما تحدثت وسيلة إعلام أو كتب أحد مقالًا ليس على هوى أهل السلطة في مصر، وهو ما جرى في العام 2016 مع الصحيفة البريطانية نفسها بالتحديد، والتي انهالت عليها فيالق إعلامية تكذّب وتتحرّى الكذب باتهاماتٍ بعدم الكفاءة والمهنية والمصداقية، وكذا التآمر على الدولة المصرية.
كما أنه لا يُعقل أن الإنسان الفلسطيني في غزّة تحديدًا، وهو محاصر برّا ومعتدىً عليها جوّا وبرّا وبحرّا، مشغولٌ بهاجس الإساءة إلى مصر والتآمر عليها، لأنه، أولًا، أكثر العرب ارتباطًا عاطفيًا ووجوديًا بمصر، ومن ثم أكثر حرصًا على علاقاتٍ صحّيةٍ ومحترمة معها، وثانيًا من أين له الوقت للتفكير في الإساءة وجرحُه مفتوح، ودمه يسيل على الأرض حاملًا أطفاله الجرحى باحثًا عن مكان للنجاة والعلاج. وثالثًا، وهذا هو الأهم، تمتدّ الروايات عن مافيا المعبر إلى سنواتٍ بعيدة مضت، ويعرفها القاصي والداني، ولا جديد فيها سوى هذه الأرقام الفلكية للمبالغ المطلوبة من الفلسطيني النازح.
وقبل ذلك كله وبعده، لا يمكن تجاهل أنه يبدو وكأن هناك قرارًا مسبقًا بخذلانٍ مقصود ومتعمّد للشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للإبادة في غزّة، جرى اتخاذه وتطبيقه منذ اليوم الأول للعدوان، ولم نسمع عن خطوة واحدة أو إجراء واحد محترم يبدّد هذا الانطباع، منذ انعقدت وانفضت قمّة الرياض التي اتخذت قرارًا بكسر الحصار على غزّة و(فرض) إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع فورا، وهو ما لم يتحقّق منه شيء على أرض الواقع، بل يكاد يكون الاهتمام الرسمي العربي بمسألة أسرى الاحتلال الصهيوني ورهائنه أكبر بعديد المرّات من الانشغال بغوث وإنقاذ ضحايا العدوان على غزّة.
مرّة أخرى، لا يليق بمصر السكوت على تلك الأهوال المذكورة في شهادات الفلسطينيين عند المعبر، والوضع كذلك فليس أقلّ من قرار واضح ومعلن بفتح المعبر بالمجّان أمام كل فلسطيني تستدعي حالته السفر إلى الخارج للعلاج، أما غير ذلك فهو مشاركة كاملة في جريمة ضد الإنسانية يرتكبها الاحتلال في غزّة.