25 اغسطس 2024
جلّنار أخت الصبح
تبدأ قصيدة "جلّنار" التي أبدعها الشاعرُ الكبير ميشيل طراد، وغنتها فيروز بالمقطع: (يا صبح رَوِّجْ، طَوَّلْتْ لَيْلَكْ، خَلَّيْت قلبي نار، بلكي بتجي أختك تغني لك، بلكي بتجي جلّنار). وضع الأخوان عاصي ومنصور الرحباني مقدمةً طويلة نسبياً للأغنية، بلغ طولها 45 ثانية من أصل الطول الكامل للأغنية 5.17 دقائق. وهذا، في تقديري، عمل مقصود بذاته، لأن الوضع الراهن هو ليل طويل تعاني منه المغنية، فَتَطْلُب من الصبح أن (يُرَوِّج)، ويحل محل الليل. وللعلم، فإن كلمة (يروّج)، بلغة أهل الشام، تعني (يُشَارف على)؛... فالمعماري الذي يبني جداراً لو سألته: هل انتهيتم؟ يقول لك: رَوَّجْنا. وأما الجلنار فهو زهر الرمان ذو اللون الناري، الأقرب إلى لون الشمس في لحظة الشروق.
هناك كوكبة من الشعراء اللبنانيين الذين يُبدعون باللغة المحكية، منهم الأخوان الرحباني، وجوزيف حرب، وسعيد عقل، وميشيل طراد، وطلال حيدر، وعصام عبد الله، وموريس عواد، وغيرهم،... وهؤلاء يقدّمون نماذج باهرة، فقصيدة "جلنار"، مثلاً، لو أنك أعدتَ صياغتها بالفصحى، لوجدتَها واحدةً من عيون الشعر العربي المعاصر.
موضوع "الشعر المحكي" إشكالي بالطبع، وقد سئل عنه جوزيف حرب، في إحدى مقابلاته الصحفية، فقال إن للفصحى تراثاً كبيراً، وأما المحكية فقد بدأ الاهتمام بها منذ زمن قريب، ونتاجُها الشعري غير مكتوب أو مسجّل كما الفصحى، بالإضافة إلى أننا لا نستطيع أن نعتبرها لغةً متكاملة، لأنها ما تزال بلا قواعد.
الجملة الافتتاحية من قصيدة جلنار التي ذكرناها أعلاه ليست سوى المياه الرقيقة التي تصادف الإنسان، حينما يريد أن يدخل إلى البحر، وبمجرّد ما تبلغ لجته، يفاجئك الشاعر ببيت ممتلئ بأسرار البلاغة، إذ يقول (صَرْخاتْ عَمّ تموج في الوادي، مْعَنْزَقْ عليها ضباب). تأخذ الوديانُ الأمواجَ الصوتية، وتموج بها، وتعيدها على هيئة صدى، والموجة الصوتية جسمٌ غير مرئي، وغير ملموس، بالطبع، فكيف يعنزق (أي: يلتف) عليها الضباب؟ والضباب، هو الآخر، شيء غير مرئي، ولا ملموس.
حينما عَرَّفَ العربُ البلاغة، قالوا إنها الإيجاز. يكادُ هذا التعريف أن ينطبق بحذافيره على قصيدة "جلنار" التي تتألف بمجملها من 69 كلمة، البطلُ الرئيسي فيها هو الطبيعة، يضاف إليها الراعي الذي يختص بالغناء أكثر من رعي المواشي. لذلك، هو لا يتسلح بالعصا، وإنما بـ "المنجيرة". نلاحظ هنا أن الشاعر لا يكتفي بأنسنة الصرخات والضباب، بل ويؤنسن المنجيرة، إذ يقول (راعي بكي ومنجيرتُه متلُه- بكيتْ تَ يتسلى)، ويبدأ بينهما حوار صامت (ع السكت). وهكذا حتى يصل إلى حدود القول: (وَقَّفت قلبي عالدرب ناطور، تَ فاق ألف نهار)، وهذه، برأيي، الإضافة الشعرية الكبرى التي يجب تسجيلها لميشيل طراد، إذ لم يسبق لأيٍّ من الشعراء الذين تحدثوا عن "القلب" في قصائدهم أن أرسل قلبه في مهمة، وهي الوقوف على الدرب لـ (يناطر) استيقاظ ألف نهار.
طلبتُ من صديقي الباحث الموسيقي، ميسر شتات، أن يشرح لي الطريقة التي اعتمدها الأخوان الرحباني في تلحين هذه القصيدة الرومانسية البليغة، فقال إن المقدمة الموسيقية تبدأ بإيقاع الفوكس الثنائي، وهو إيقاع مرش عسكري: دُمْ تَكْ تَكْ، دُمْ تَكْ تَكْ، مع صوت متكرر من آلة القانون، وهذا يُدخلُ المستمعين في حالةٍ من الترقب والانتظار، ويجعلهم يتوترون من شيءٍ يجهلون ماهيته، ثم تدخل الفرقة الموسيقية كلها، فتؤدي عدة جمل من مقام الهزام الذي كان رياض السنباطي يسميه المقام السماوي، بمعنى أنه مقام الرجاء والتضرّع والدعاء والخشوع، ثم تدخل آلة الناي، آلة الروح والوجدان والألم، ثم الأوكرديون، ثم يأتيان بجمل جديدة من جواب المقام، فتتأزم الحالة أكثر، وتستلم الفرقة الموسيقية من الأوكرديون، فتعيدنا إلى الحالة التي ابتدأنا منها. وهنا، يصبح المغنى بلا إيقاع، (فالت).
يا لهذه الروعة.
هناك كوكبة من الشعراء اللبنانيين الذين يُبدعون باللغة المحكية، منهم الأخوان الرحباني، وجوزيف حرب، وسعيد عقل، وميشيل طراد، وطلال حيدر، وعصام عبد الله، وموريس عواد، وغيرهم،... وهؤلاء يقدّمون نماذج باهرة، فقصيدة "جلنار"، مثلاً، لو أنك أعدتَ صياغتها بالفصحى، لوجدتَها واحدةً من عيون الشعر العربي المعاصر.
موضوع "الشعر المحكي" إشكالي بالطبع، وقد سئل عنه جوزيف حرب، في إحدى مقابلاته الصحفية، فقال إن للفصحى تراثاً كبيراً، وأما المحكية فقد بدأ الاهتمام بها منذ زمن قريب، ونتاجُها الشعري غير مكتوب أو مسجّل كما الفصحى، بالإضافة إلى أننا لا نستطيع أن نعتبرها لغةً متكاملة، لأنها ما تزال بلا قواعد.
الجملة الافتتاحية من قصيدة جلنار التي ذكرناها أعلاه ليست سوى المياه الرقيقة التي تصادف الإنسان، حينما يريد أن يدخل إلى البحر، وبمجرّد ما تبلغ لجته، يفاجئك الشاعر ببيت ممتلئ بأسرار البلاغة، إذ يقول (صَرْخاتْ عَمّ تموج في الوادي، مْعَنْزَقْ عليها ضباب). تأخذ الوديانُ الأمواجَ الصوتية، وتموج بها، وتعيدها على هيئة صدى، والموجة الصوتية جسمٌ غير مرئي، وغير ملموس، بالطبع، فكيف يعنزق (أي: يلتف) عليها الضباب؟ والضباب، هو الآخر، شيء غير مرئي، ولا ملموس.
حينما عَرَّفَ العربُ البلاغة، قالوا إنها الإيجاز. يكادُ هذا التعريف أن ينطبق بحذافيره على قصيدة "جلنار" التي تتألف بمجملها من 69 كلمة، البطلُ الرئيسي فيها هو الطبيعة، يضاف إليها الراعي الذي يختص بالغناء أكثر من رعي المواشي. لذلك، هو لا يتسلح بالعصا، وإنما بـ "المنجيرة". نلاحظ هنا أن الشاعر لا يكتفي بأنسنة الصرخات والضباب، بل ويؤنسن المنجيرة، إذ يقول (راعي بكي ومنجيرتُه متلُه- بكيتْ تَ يتسلى)، ويبدأ بينهما حوار صامت (ع السكت). وهكذا حتى يصل إلى حدود القول: (وَقَّفت قلبي عالدرب ناطور، تَ فاق ألف نهار)، وهذه، برأيي، الإضافة الشعرية الكبرى التي يجب تسجيلها لميشيل طراد، إذ لم يسبق لأيٍّ من الشعراء الذين تحدثوا عن "القلب" في قصائدهم أن أرسل قلبه في مهمة، وهي الوقوف على الدرب لـ (يناطر) استيقاظ ألف نهار.
طلبتُ من صديقي الباحث الموسيقي، ميسر شتات، أن يشرح لي الطريقة التي اعتمدها الأخوان الرحباني في تلحين هذه القصيدة الرومانسية البليغة، فقال إن المقدمة الموسيقية تبدأ بإيقاع الفوكس الثنائي، وهو إيقاع مرش عسكري: دُمْ تَكْ تَكْ، دُمْ تَكْ تَكْ، مع صوت متكرر من آلة القانون، وهذا يُدخلُ المستمعين في حالةٍ من الترقب والانتظار، ويجعلهم يتوترون من شيءٍ يجهلون ماهيته، ثم تدخل الفرقة الموسيقية كلها، فتؤدي عدة جمل من مقام الهزام الذي كان رياض السنباطي يسميه المقام السماوي، بمعنى أنه مقام الرجاء والتضرّع والدعاء والخشوع، ثم تدخل آلة الناي، آلة الروح والوجدان والألم، ثم الأوكرديون، ثم يأتيان بجمل جديدة من جواب المقام، فتتأزم الحالة أكثر، وتستلم الفرقة الموسيقية من الأوكرديون، فتعيدنا إلى الحالة التي ابتدأنا منها. وهنا، يصبح المغنى بلا إيقاع، (فالت).
يا لهذه الروعة.