جمال البنا .. اختفاء قسري
تمر ذكرى رحيل الباحث الإسلامي، جمال البنا، (توفي 30 يناير/ كانون الثاني 2013)، وهو رهن الاختفاء القسري، ليس بفعل الموت، ولكن بفعل أقرب الناس إليه بيولوجياً، وأبعدهم عنه فكراً وسلوكاً، وهم بعض أقاربه وورثته، من أسرة البنا. عاش في شقة صغيرة بشارع الجيش في القاهرة، ماتت زوجته منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ولم يتزوج بعدها. تحولت شقته إلى مكتبة ودار نشر، يتوسّطها سرير لنومه ومكتب لعمله اليومي. آلاف الكتب والمجلدات والدوريات. ورث الأستاذ مكتبة أبيه، عالم الحديث ومحقق مسند الإمام أحمد، الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، ومكتبة أخيه حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ومكتبة أخته فوزية البنا، شريكته في مشروعه وداعمه الأساسي، وقد كانت نصف ثرية، بالإضافة إلى مكتبته في الفكر الإسلامي من ناحية، والفكر النقابي العمالي الذي شغل جانباً من حياته ومشروعه، من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك مؤلفاته (تتجاوز 150 كتاباً)، التي كان يطبعها ويوزعها بنفسه، ولا يحتاج فيها لداعم يفرض عليه "أفكار السوق" أو إكراهات المؤسسة الدينية الرسمية.
كان بيته ثروة حقيقية. مات الأستاذ، وجاء الورثة ليبدّدوا هذه الثروة، مع سبق الإصرار والترصد. لم يبيعوا كتب جمال البنا لتجار الكتب القديمة، كما يفعل ورثة أغلب المثقفين، ولو فعلوا، لهانت المصيبة، فالكتب، في النهاية، ستصل إلى قارئ ما. ما حدث، باختصار، أنهم أخفوها، أغلقوا البيت، وذهبوا بالكتب إلى حيث لا يعلم أحد. تدخل بعض تلامذة الأستاذ جمال وطلبوا نسخاً من كتبه، على الأقل، لتوزيعها على المكتبات أو إعادة طبعها. أبلغني أحدهم أن الرد جاءه كالآتي: "هذه الكتب فضيحة وعار، ولن نسمح بتداولها بعد موت صاحبها".
تحدثت إلى أحد مثقفي جماعة الإخوان المسلمين في إسطنبول، وهو شاب استثنائي في وعيه، وربما يختلف مع جمال البنا في كل شيء، لكنه يفهم جيداً قيمة الحفاظ على كتب الرجل وأفكاره ومكتبات أبيه وأخيه وأخته، فهي ثروةٌ وتاريخٌ وحق أدبي لأصحابها، لا لورثتهم. تواصل هذا الشاب وبذل جهده. وبعد فترة أخبرني بأنه لا فائدة، وأنهم مُصرّون على موقفهم. لن يُظهروا الكتب، لن يبيعوها، لن يوزعوها على المكتبات، لن يمنحوا حق طباعتها لأحد، لن يتيحوها، ولو للاطلاع، ماتت الكتب مع صاحبها وانتهى الأمر.
ما أهمية كتب جمال البنا؟ يسألني أكاديمي متعجرف، وهو يُصعّر خدّه (حرفياً)! مشكلة كبيرة أن نضطر إلى الدفاع عن حق كاتبٍ في عدم مصادرة كتبه، وتركها للزمن والقارئ ليحكما. مشكلة أكبر أن يتصوّر فريقٌ من الأكاديميين أن المجال العام لهم وحدهم، على الرغم من أنهم الأقل تأثيراً فيه، وأنه لا حق لغيرهم، من كتّاب ومثقفين، في المشاركة، وتوسيع دوائر الرؤى وزوايا المعالجة. أهمية كتب جمال البنا أنها "معرفة مستقلة". لا يمكننا الادّعاء بصحة ما جاء فيها، ولكن يمكننا الجزم بأن صاحبها قال ما يريده من دون أي توازنات، وهو نوع نادر من المعرفة الدينية، خصوصاً في مجتمعاتنا.
على المستوى المهني، تعرّفت إلى المدارس الإسلامية المعاصرة كافة، شخوصاً وأفكاراً. لا أعرف عالماً، أو باحثاً، أو مفكراً، مهما علا شأنه يعلن كل ما يصل إليه أو يؤمن بصحته. لا أعرف أحداً لا يخفي آراء مهمة خوفاً من سلطة المؤسسة أو مؤسسة السلطة، أو الجماهير. جمال البنا فعل، ليس لأنه بطل، ولكن لأنه يأتي من موقع "المثقف المستقل"، غير المرهون لإحدى السلطات الثلاث.
عاش جمال البنا 93 عاماً، وعرفه الإعلام بعد الثمانين، فلم يكن يسعى إلى أحد، وجرى اختزاله في آراء سمّاها إعلاميو الترند "فتاوى"، على الرغم من تأكيد الأستاذ، ألف مرة، أنه يشارك بأفكار لا بفتاوى، وأن آراءه للنقاش وليست للحسم. الآن يُحرَم القارئ كُتبه التي تحمل وحدها، من دون ظهوراته الإعلامية، ثمرة جهده الطويل، بعد أن تخلّى عنه أهله، ومشجعوه، من غير الإسلاميين، نكاية في الإسلاميين لا حباً في المعرفة. رحمة الله عليه.