جنسيات الفلسطينيين والتفاتة تونسية
شهوراً بعد احتلال العراق، لمّا تمكّن الطائفيون إياهم من بعض السلطة هناك، سارع عراقيون، مرضى بخرافاتٍ سقيمة، وبانعدام الحس الإنساني، إلى تنكيل بالفلسطينيين اللاجئين، وقتلوا كثيرين منهم، وطردوا عديدين من منازلهم. لم تفعل منظمة التحرير، لإنقاذهم، إلا "الكلام الساكت" (بتعبير إخوتنا السودانيين). ارتحل آلاف منهم إلى مخيمات على الحدود مع سورية ومع الأردن، واستقبلت تشيلي والبرازيل والسودان (وغيرها) مئاتٍ منهم. في تلك الغضون، كنتُ على قلقٍ على الشاعر الفلسطيني، خالد علي مصطفى، المقيم في العراق منذ سنواتٍ بعيدة (توفي العام الماضي في بغداد، رحمه الله)، وما إذا كان قد لحقَه شيءٌ من هذا العسف، ولم يرشح إليّ خبرٌ عنه. ثم التقينا في الشارقة بعد سبع سنوات، واستوضحتُه عن أحواله، فأخبرني أنه كان قد أُعطي جواز سفر عراقياً، ثم الجنسية، إبّان عمله موظفاً رفيعاً في وزارة الثقافة العراقية، في سنوات النظام السابق، لتسهيل أسفاره في مهماتٍ خارجيةٍ في تلك الأثناء. ولولا حظّه ذاك لأصابه، ربما، أذى شنيعٌ بعد الاحتلال، وبذلك حمتْه وأسرتَه الجنسية العراقية.
زوبعةٌ من الخواطر، مثل هذه، يستنفرُها الخبر الذي عبر، الأسبوع الماضي، عن منح تونس (بتصديق الرئيس قيس سعيد) الجنسية التونسية لـ 34 فلسطينياً، من بين 135 شخصاً، استوفوا شروطاً مستحقة. وأول ما يشيعه خبر مثل هذا أن الجنسية لفلسطينيين يحملون وثائق سورية ولبنانية ومصرية (هل بقيت العراقية؟)، ولم تيسّر لهم الأقدار أن يُحروزا غيرها، تحميهم من ظلمٍ لا يوصَف، واضطهادٍ ثقيلٍ يقترب من الجحيم. ولهذا، نُحْسَد، نحن ذوو الأرومة الفلسطينية الذين نحوز الجنسية الأردنية الكاملة، والحقوق المدنية والسياسية التامة. ومما يجدر عدم إغفاله في المرور، هنا، على هذه القضية العويصة، أن الحقوق الإنسانية والاجتماعية للفلسطينيين، اللاجئين خصوصاً، وأُعْطوها في البلاد العربية التي استقبلتهم، بعد 1948، صارت تتناقص، ويُلْغى بعضها، وغالباً تبعاً لحساباتٍ (أو حماقاتٍ على الأصح) سياسية، ومتغيرات اجتماعية، أو صدوراً عن استضعافٍ للفلسطينيين، متوازياً مع ضعف الحس القومي. ولعل الحالة المصرية تشخّص شيئاً من هذا، فبعد أن تنعّم (هل تجوز هذه المفردة بصدد أي لاجئين؟) الفلسطينيون اللاجئون في مصر في عهد جمال عبد الناصر بكثيرٍ مما للمواطن المصري، من قبيل حق التملّك والعمل في القطاع العام، استجدّت "كامب ديفيد"، وصارت واقعة اغتيال الوزير يوسف السباعي (1978)، تم حرمانهم مما كانوا عليه، وصاروا "أجانب"، في تعديلاتٍ قانونيةٍ جرّدتهم من حقوق الإقامة (باستثناءاتٍ محددة). ومن شواهد أخرى على الحماقات الفلكلورية العربية أن سهى عرفات مُنحت (وابنتُها) الجنسية التونسية، لشراكتها مع ليلى بن علي في مشروع مدرسةٍ دوليةٍ، ثم بعد خلافٍ بينهما وتصفية المشروع، سُحبت الجنسية منها، فارتحلت أرملة الزعيم الفلسطيني إلى مالطا.
ومع شحّ الدراسات الحديثة للمجتمعات الفلسطينية، بجنسياتهم العديدة في العالم، جاء طيباً من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إصداره أخيراً الكتاب الذي يلبّي حاجةً ملحّةً في الموضوع "الفلسطينيون في العالم .. دراسة ديمغرافية"، لمؤلفيْه يوسف كرباج وحلا نوفل. وفيه إضاءاتٌ موثقةٌ على شتات الفلسطينيين في أميركا وكندا وأوروبا، فضلاً عن الدول العربية، ومنها لبنان الذي يقترب حال اللاجئين الفلسطينيين في مخيماته من الجحيم، لأسبابٍ يطول شرحها. وإذا كان من كلمةٍ متعجلةٍ في شأنهم هنا فهي أن ثمّة بؤسا متوطّنا في أفهام نخب في الطبقة السياسية النافذة في البلد، أن الإبقاء على شقاء هؤلاء الفلسطينيين في مخيماتهم يحمي حقوقهم في العودة، وأن تحسين أحوالهم يؤثّر سلباً على حماية "هويتهم الوطنية" التي ألحّ قرارٌ لجامعة الدول العربية في عام 1952 على ضرورة الحفاظ عليها. وبشأن الفلسطينيين في سورية، فالمحنة الحادثة بهم متصلّةٌ حكماً بالنكبة التي صار فيها مواطنو هذا البلد عموماً، غير أنه يجدر التذكير بأن نظام "البعث" أجرى عدة تعديلاتٍ على قوانين سابقةٍ على وثوبه إلى السلطة، خصمت من حقوق (وامتيازات) اللاجئين الفلسطينيين.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، من المفارقة أن قرار الرئيس التونسي، أخيراً، تزامن مع منح تشيلي جنسيتها لـ 45 شاباً وطفلاً من الفلسطينيين الذين وفدوا من العراق، البلد العربي الذي ضنّ فيه الحاكمون الجدد عليهم بالحماية والأمن والأمان.