جورج عبد الله ومعضلة استقلاليّة العدالة الفرنسيّة
تقوم الديمقراطية على أساس محوري مقدّس، وهو الفصل بين السُّلطات، وفي قلب ذلك استقلالية العدالة، وكلّما ارتفع منسوب ذلك كانت الدّولة إلى الدّيمقراطية أقرب. وعلى العكس من ذلك، إذا غاب المبدأ وكانت السُّلطات غير منفصلة أو كانت العدالة غير مستقلّة، فانّ الاستبداد يكون الوصف الذّي يليق بالنّظام الذّي يكون كذلك.
الإشكالية في أنّ الوصف إذا كان لصيقاً بدول مستبدّة قد يكون مقبولاً، في حال كانت من العالم الثالث. ولكن أن يصدر ذلك التوصيف وينطبق على ديمقراطية عريقة مثل فرنسا فهذا ممّا لم نكن نعتاده، وإن لم يصبح مستغرباً، في العقود الأخيرة، مع المنعرج اليميني المتطرّف الذي أضحى عليه الغرب، خاصة في كلّ ما له صلة بعالمنا العربي الإسلامي وبمواطنيه وقضاياه.
بعد رفض أكثر من عشر مرّات، قبل قضاء فرنسا إطلاق سراح أقدم سجين لديها، جورج عبد الله، المحكوم عليه بالسجن المؤبد جرّاء انتسابه لجماعة يسارية فلسطينية وقيامه بعمليات في فرنسا، على أن يدخل التّسريح حيّز التّطبيق في بداية الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأوّل). ولكن الفارق مع العدالة الفرنسية أنّ النّيابة العامّة قدّمت التماساً قد يعطّل عمليّة اطلاق سراح جورج عبد الله بضغط من السّفارة الأميركية التّي تدّعي، باسم الدّولة الأميركية، أنّ جورج عبد الله ضالع في اغتيال دبلوماسي أميركي من دون تقديم دليل على جريمةٍ حدثت في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وكان جورج عبد الله ناشطاً في النّضال مع القضيّة الفلسطينية.
ما يهمُّ هذه المقالة ذلك الادّعاء أنّ ثمّة استقلالية للعدالة الفرنسيّة، بالرغم من تعدُّد حالات الخروج عن هذا المبدأ أو تجاوزه في قضايا تتعلّق، فقط، بالشرق أوسطيين أو المهاجرين من المنطقة المغاربية، على غرار تجريد المواطنين من أصول مغاربية من الجنسية زيادة على محاكمتهم وسجنهم لتكون العقوبة مضاعفةً قد لا تنقضي إلّا بعقوبة ثالثة، هي الإبعاد عن الأراضي الفرنسية، كما جرى مع ناشطين كثيرين معارضين أنظمة بلدانهم، أو الذين يعلنون مواقف مساندة وتأييد للقضايا العربية والفلسطينية، على وجه الخصوص.
الجانب الآخر من التّطرُّق الى الموضوع اختراق فرنسا مبدأ استقلاليّة العدالة، عندما خضعت لطلبات السّفارة الأميركية بالإبقاء على سجين تعدّى عمره السّبعين، وتجاوزت عقوبته السّجن المؤبّد المعادل، في القوانين الفرنسية، لعقوبةٍ لا تتجاوز 25 عاماً. وشكّل جورج عبد الله الاستثناء، وذلك كله بتدخُّل للولايات المتّحدة، ما يدعونا إلى القول إنّ زعم تلك الاستقلاليّة وربطها بقيم الدّيمقراطية مجرّد خطاب معياري وأخلاقي من دون عمق، يُباع لنا معلّباً بزعم ترقية تلك القيم عندنا. ولكن، بالنّسبة لهم، يمكنهم، لمصالح محدّدة، التّملُّص من المبدأ ومن القيم من دون حسيب ولا رقيب.
السّياسي المتطرّف، إيريك زمُّور، لم يُسجن، أبداً، بالرّغم من أحكام عدة بتهم لها صلة بالعنصرية
ليست قضية جورج عبد الله الوحيدة في هذا الإطار في فرنسا، بل يمكن الحديث عن سنّ قوانين عديدة تتناقض مع مبدأ استقلاليّة العدالة، وإنْ لم تكن بالتّدخُّل الأجنبي، من قوّة خارجية، ولكن بإقحام العدالة في قضايا لها صلة بملفّات مصلحيّة، على غرار الحقّ في حرّية التّنقُّل، منع جمعيّات من العمل، التّحريض الإعلامي، قانون الانعزاليّة الإسلاميّة، وغيرها من قضايا ما كان للعدالة أن يُتلاعب بها، ويكون الفاعل الأساس فيها ليس وزير العدل، بل وزير الدّاخلية، في أحيان كثيرة، على غرار تحريض وزير الداخلية السابق، دارمانان، من التّحريض ضدّ الجمعياّت الإسلامية، وسعيه إلى التّشديد على المغاربيين في ملف التّأشيرة، بزعم وجود صلة بين التّطرُّف، الإرهاب و الهجرة السّرّية، من ناحية، والمغاربيين، من ناحية أخرى، من دون أدنى إثبات، تماما مثل إبعاد بعض الأئمّة، بزعم أنّهم يلقون خطباً تتناقض مع مبادئ حرّيّة الإنسان، أو بزعم أنّ في تلك الخطب دعوة إلى العنف ضدّ المرأة. وكلها، كما نرى، ملفّات، لو وُجد مبدأ استقلالية العدالة، كما تدّعي فرنسا، لما جرى إقحام الأجهزة الشُّرطية، أحياناً، من دون المرور على المحاكم (جرى الإعلان عن حظر نشاطات جمعيات إسلاميّة، وغلق مساجد بقرارات من وزارة الدّاخلية من دون أدنى تدخُّل لوزارة العدل، ومن دون السّماح للجمعيات القائمة على تلك المساجد بتقديم معارضات على القرارات بالمنع من النّشاط).
يمكن التّذكير، في المقام، بالحملة التّي تعرّض لها اللاعب بن زيمة والفكاهي ياسين بلعطّار، لمجرّد أنّهما عبّرا عن موقف يتناقض، من وجهة نظر الفرنسيين، مع السّامية، وفق رأيهم، إذ تحدّث وزير الداخلية، آنذاك، دارمانان، عن صلات بين بن زيمة وتنظيم الإخوان المسلمين من دون أن يقدّم دليلاً واحداً. وهي، للعلم، قضيّة خطيرة، سارع اللاعب إلى رفع قضية بشأنها لدى المحاكم الفرنسية ضد الوزير السّابق. كما تعرّض بلعطّار، أيضاً، بعد استياء بعض من اليمينيين من مرافقته الوفد الرّسمي الفرنسي الرّئاسي إلى المغرب، أخيراً، حيث جرى التّعريض بالفكاهي والتّذكير، كذباً وبهتاناً، بأنّه ملاحق قضائياً في قضايا سبّ وقذف، بل والتّهديد بالقتل، وكلُّها تهم جزافية تحدّث عنها هؤلاء ولم يصدر القضاء بياناً واحداً يندّد بتلك الأخبار الكاذبة ذات الخلفيّة القضائيّة، بسبب أنّ ياسين بلعطّار من أصول مغربية، وليس فرنسياً أصيلاً.
ويمكن الحديث عن فرنسيين من اليمين المتطرّف لم يتوقّفوا، منذ أعوام، عن شتم العرب والمسلمين والمغاربيين، بصفة خاصّة، ولم يُلاحقوا أمام المحاكم، أو أن القضاء لاحقهم، وأصدر بحقّهم أحكاماً لم تُنفذ، لا لشيء إلا لأن تلك التُّهم هي العنصرية، سبّ وشتم جزء من الفرنسيين من أصول مغاربية، وأشهرهم، في هذا الباب، السّياسي المتطرّف، إيريك زمُّور، الذّي لم يُسجن، أبداً، بالرّغم من أحكام عدة بتهم لها صلة بالعنصرية. بل، أكثر من ذلك، يُسمح له بمنبر إعلامي، في قناة إخبارية ملك لرجل الأعمال بولوري، لأعوام، يقوم فيه بهوايته الخاصّة، أي السبّ والشّتم للإسلام، للمهاجرين والكذب عليهم، كما سمحت له السُّلطات القضائية بالتّرشُّح للرئاسيات والتّشريعيات، و لم تستصدر قرارات قضائية تمنعه، بسبب الأحكام المذكورة، من الاستمرار في التّرشُّح لأعلى منصب في الدّولة الفرنسية (الرّئاسة) أو للجمعيّة الوطنيّة (الغرفة السُّفلى للبرلمان الفرنسي).
تزداد حاجة الثقافة العربية التي ما زال يهيمن عليها سَقْفٌ في النظر مُعادٍ للعقل والتاريخ، إلى آليات في النظر تساعد على توسيع مساحة النظر الفلسفي
تتحدّث الصّحافة اليساريّة كثيراً، في فرنسا، عن ظاهرة غياب استقلاليّة العدالة في فرنسا وتبرز، يومياً، قضايا سياسيّة، وأخرى ذات خلفية اقتصاديّة تلعب فيها السُّلطة التّنفيذية، خاصّة في عهدتي الرئيس ماكرون، دور السُّلطة المتنفذة في إطار المنعرج النيوليبرالي الذّي طبع به الحياة السياسية الفرنسية منذ صعوده الى سدة الحكم، في 2017. ويُذكر، في هذا المقام، الدّور المتزايد للسُّلطة التّنفيذية على حساب السُّلطات الأخرى، التّشريعية والقضائية، حيث أضحى قصر الإليزيه المكان الذّي تُصنع فيه السّياسة، وتُتّخذ فيه القرارات الحيوية لفرنسا، خاصّة في المجال الاقتصادي، ما جعل بعضهم يتحدّث عن رئيس يتصرّف وكأنّه ملك فرنسا، حيث يمنح الدّستور (دستور الجمهورية الخامسة الذّي رسم معالمه الجنرال ديغول، في 1958، في ظروف عصيبة كانت تمرُّ بها فرنسا من جرّاء تصاعد تأثير الحرب التّحريرية الكبرى الجزائريّة) صلاحيات واسعة للرّئيس. وبالرّغم من ذلك، جعل ماكرون وقبله ساركوزي (رئيس فرنسا من 2007 - 2012) من الرّئاسة السُّلطة الأعلى لخدمة مصالح طبقة اقتصادية بعينها، ولو على حساب شعار الثّورة الفرنسية الموسوم بثلاثية: حرّية، مساواة وأخوّة، وهي عبارات أضحت فضفاضة لا عمق لها بمؤشّر غياب استقلالية العدالة، وفق ما جرت الإشارة إليه من حالات ومواقف.
تلك هي فرنسا التّي تتشدّق بالدّيمقراطية، وهي تُطبّق سياسات أضرّت بإفريقيا وتطبّق السّياسة نفسها على مواطنين فرنسيين، ولكن من أصول أخرى، تلك التّي تريدها حضارة الغرب. وبالتّالي، فانّ لهذا المؤشّر، غياب استقلالية العدالة، تأثير على تراجع فرنسا والجميع يتذكّر، في هذا المقام، انتفاضات السُّترات الصفراء التّي كانت من بين مخارج مؤشّر المنعرج النيوليبرالي للسّياسات الاقتصادية ولمؤشر غياب استقلالية العدالة.