"حبيبتي الدولة"... أحبّاؤنا الأميركيون
كثيراً ما أقرأ في كتاب لم يعد بين يديّ، وإن بقي في إحدى مكتباتي الضائعة بين هنا وهناك، بسبب التنقّلات الكثيرة التي تفرضها أحداثُ لبنان وأحوالُه البائسة على كلّ مواطن لبناني قادر على السفر، لا بداعي السياحة طبعاً، وإنّما بداعي اللجوء إلى أرض آمنة والفرار من أرض النار. والكتابُ هذا، على صغره (160 صفحة) وعلى قدمه (صادر عام 1967)، يحضرني عنوانه في أكثر من مناسبة، ونتفُ جملٍ منه، ومقاطعُ كثيرة، حتى إن عنوانه ذهب لكثيرين مذهب المثل، وقد درج واستعيد وما زال، في أكثر من مناسبة، خاصّة في ما يتعلّق بالشأن اللبناني. واليوم، بمناسبة الانتخابات الأميركية، تذكّرت منه مشاهدَ عن لقاء بطله، وهو مواطن لبناني عاديّ إذا صحّ التعبير، بالسفير الأميركي شخصياً، لاستبيان الأوضاع مباشرة منه، والوقوف على قضايا الشرق الأوسط ومآلها.
إنه كتاب "حبيبتي الدولة" (تغريبة روائية – الدار العالمية) للشاعر الراحل محمد العبد الله، الذي استشرف، بسخريته وأدبه وفرادة رؤيته، ومبكّراً جدّاً، ما ستؤول إليه أحوال البلاد، لا بالتحليل الجاف، وإنما بحسّ الأديب الحرّ الرائي إلى ما هو أبعد من السياسي الآنيّ، قصير النظر، حول تحلّل الدولة التام، وتحكّم المليشيات وسيطرتها، وتشرذم البلاد، بالإضافة إلى تناوله شجون العيش ومآسي التنقّل بين الدويلات المسلّحة المنتشرة في لبنان آنذاك. "ونظرت إلى السلطة فوجدتها تسقُط وتظلّ واقفةً، ونظرت إلى الثورة فوجدتها تنتحر وتظلّ قاعدة"، ومثل ما يقول في عنوانه، يحاول الكتابُ في متنه قراءةَ الواقع الاجتماعي والسياسي، بنظرة مثقّف صاحب موقف نهائيّ رافضٍ الحربَ والأحزابَ والسلاح، بشيء من السخرية وأسلوب انتقادي أدبي، ذلك أن الدولة، كما قال محمد العبد الله، هي المشكلة وهي الحلّ، وهي أيضاً "رهاننا الوحيد، مهما كان ضعيفاً".
واليوم إذ يحضرني هذا الكتاب الفريد في نوعه، وذو العنوان الحذِق المعبّر، بدليل بقائه جارياً على الألسن بعد نحو أربعة عقود، فلأني، كبقيّة المليارات الستّة أو السبعة في وجه هذه الفانية، معنيّة بالانتخابات الأميركية، التي تجرى اليوم ويُتوقّع لها أن تنظّم شؤون الكون بطريقة أو بأخرى، بحسب نتيجةٍ ستحدّد من هو الفائز أو الفائزة. وإذ أجلس أمام شاشتي، أقلّب القنوات العربية والعالمية، وأتفرّج على الاجتماعات الاحتفالية والخطابات التي يلقيها المرشّحان للرئاسة لكي يستنهضا همم الناخبين، تحضرني ملاحظة العبد الله في أنهم يتميّزون دائماً بامتلاكهم أسناناً بيضاءَ وكثيرة، توحي دوماً بأنها أكثر عدداً ممّا لنا في أفواهنا نحن البشر الآخرين، وأنهم دائماً ضاجّون مرتفعو الأصوات. وهو ما كنت لاحظته أيضاً من زيارتي إلى تلك البلاد حيث بدا الجميع هناك سعداء، باسمين، مستعدّين لعناقك أنتَ الغريب، أو لأخذك في الأحضان، مستفسرين باهتمام عن أصولك، غير مدركين ما يجري خارج حدود قارّتهم التي "باركها الله" (غود بليس أميركا)، بأن أهداهم إياها شاسعةً خيّرةً، لكي يحرثوها ويزرعوها ويستوطنوها ويبنوا عليها ولاياتهم. أمّا عن الهنود الحمر، سكّان البلاد الأصليين، فما كانوا سوى حفنة قليلة من جماعات متوحّشة غير متحضّرة، تبعد وتجمّع للعيش في محميّات. هذا شعبٌ في عمقه طفلٌ مدلّل لا يدرك عن غيره كثيراً، لذا لا يمكنك أن تكرهه، لكنّك حتماً ستلوم أهلَه على جعله "جاهلاً"، بالمعنى الذي يقال في بعض بلدانناعن طفل بريء.
وبالعودة إلى الشاعر محمد العبد الله وكتابه "حبيبتي الدولة"، فليتنا نتذكّر إبّان الإعلان عن نتائج الانتخابات الأميركية: "إنّنا أعظم جيل لأعظم مرحلة، لأننا مضطرّون أن ننتزع أشواكنا بأيدينا، ولأنّنا لم نرث سوى هزيمةً فاحشةً، ولم نتزوّد سوى بمجهول آت، وعلينا لكي نعرف أيّ شيء، في أيّ زاوية مظلمة، أن نشتغل فيها، إننا نبتكر حريّتنا قيداً قيداً وفضاءً فضاءً، بينما المقصّ يتدخّل بين الشهيق والزفير، وأننا مضطرّون الآن لحريّتنا كلّها".