حرب السودان درس رديء آخر في التجربة العربية
إنها الحرب في السودان، البلد الفقير الذي لا يجد كثيرون من مواطنيه قوت يومهم، والذي ثار شعبه من أجل مستقبله في العام 2018 وأسقط الرئيس عمر البشير، لكن أطرافه المتناحرة تجد المال لتدميره. إنهم العسكر وأشباههم بوصفهم أقوياء أغبياء ومسلحون، يمارسون القتل في الحرب باعتباره مهنتهم، والتي لا يقتلون بمدافعها بعضهم، ويغتالون الثورة السودانية ضد الطغيان الذي كان الطرفان المتصارعان جزءاً منه فحسب، بل ويقتلون الأبرياء من الشعب السوداني، ولا تهمّهم لا أرواح الناس ولا أرزاقهم، ولا البلد ومصيره، بقدر ما تهمهم السلطة والانفراد بها وتحقيق مصالحهم الضيّقة.
كل الحروب قذرة، بصرف النظر عنها ظالمة أو عادلة، فهي توقع الخسائر في الطرفين وما يتجاوزهم، حيث تصيب من ليس لهم علاقة بالصراع وتُدميه أيضاً. وأقذر هذه الحروب هي الداخلية، حيث يقتل الأخ أخاه من أجل مصالح ضيّقة، وبدلاً من تحقيق النصر على الطرف الآخر، نجدهم يدمّرون البلد، ويدمّرون معه ما يعتقدون أنه مصدر قوتهم في مواجهة الطرف الآخر.
إذا كان من الصحيح في الحالة السودانية، أنه لا يمكن لبلدٍ أن يملك جيشين بسلطتين، وهذا هو واقع السودان قبل اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي هي بمثابة جيش موازٍ، ليس بقيادته فحسب، بل وفي تمويله الذاتي بسيطرته على مناجم الذهب وغيرها من مقدّرات السودان، المنهوبة منهم ومن غيرهم من فاسدي السلطة منذ زمن الطاغية عمر البشير، فمن الصحيح أيضاً أن هذا الواقع قد صنعه الطاغية ذاته.
يبدو أن طرفي الصراع راهنا على الحسم السريع للحرب، ولكن هذا النصر لم يحصل عليه أيٌّ من الطرفين
كان الجيش ذاته أداة البشير في قهر الشعب السوداني عقودا، ولمّا أصبح هذا الجيش غير قادر على قمع التمرّد في دافور، استعان البشير بعصابات الجنجويد ومليشياتها التي تحوّلت، بتوسيعها وزيادة دمويتها وقوتها، إلى قوات الدعم السريع، وأصبحت جيشاً موازياً للجيش السوداني بمباركة البشير ذاته. ولم تتورّع هذه القوات عن قمع ثورة الشعب السوداني بعد سقوط البشير وانقلاب الجيش وقوات الدعم السريع على الثوار وقتلهم، وارتكاب المجازر، وفي مقدمتها المجزرة أمام القيادة العامة الذي ذهب ضحيتها أكثر من مائة من المعتصمين العزّل في المكان. ليتشارك الطرفان السلطة في السودان في مواجهة الثورة.
يبدو أن طرفي الصراع راهنا على الحسم السريع للحرب، ولكن هذا النصر لم يحصل عليه أيٌّ من الطرفين، فخطّة دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، والتي هي أساس الخلاف الذي انطلق منه الصدام المسلّح، هي ما سعت القوات المتحاربة إلى تجاوزه في الصدام المسلّح الذي يجري، والذي لا يظهر أن أيا من الطرفين قادر على حسمه لمصلحته، وإن كان ميزان القوى يميل لصالح الجيش، فإن هذا الاختلال غير كافٍ لحسم الحرب. وبتوسّع الحرب بين الطرفين، وخروج البعثات الدبلوماسية وإغلاق مقرّاتها في الخرطوم، ما يعطي مساحةً للطرفين، ليس لتوسيع الحرب فحسب، بل وتوسيع القتل الوحشي ضد الخصوم وضد المدنيين بعيداً عن الرقابة الدولية التي تكبح هذه الوحشية، خوفاً من إجراءاتٍ دوليةٍ بحقّ الطرف الأكثر وحشية.
مع ملل المجتمع الدولي من هذه الحرب، والتفاته إلى صراعات أخرى في العالم، ستذهب هذه الحرب إلى صناعة خطوط جبهاتها، سواء في الأقاليم، أو في المدن الكبيرة ذاتها، ما سيجعلها، حسب المعطيات الأولية، حربا طويلة، ستجعل الوضع في السودان كارثياً، وستذهب بالبلد إلى نوع من التقسيم الداخلي حسب خطوط الجبهات التي ستسفر عنها هذه الحرب بين الطرفين، وسيدخُل هذا الصراع في استنقاع طويل، ومبادرات مصالحة وحلّ وتطول بين الطرفين اللذيْن لا مصلحة لهما في مصالحة، فليست المصالح الوطنية جزءاً من تكوين طرفي الصراع الدموي في السودان، بل مصالحهما الذاتية.
في وقتٍ عاشت فيه الجيوش الهزائم في مواجهة التحدّيات الخارجية، نجد أن "الانتصارات" التي حققتها هذه الجيوش كانت في مواجهة المواطنين العزّل
ليست تجربة الجيش السوداني بتدمير بلده وقتل مواطنيه جديدة على العالم العربي، فقد علمتنا تجربة الربيع العربي في عدة بلدان عربية أن الجيوش العربية، التي تم ركوبها للوصول إلى السلطة في زمن الانقلابات، وتسميتها زوراً وبهتاناً بالثورات. وبدخول قادة هذه الجيوش إلى السلطة عبر فوّهة الدبابة، باتت الجيوش فاعلاً أساسياً في الصراعات الداخلية، أو باتت القوة السياسية الكبرى في الساحة السياسية، والتي لا ترى أي قوى سياسية غيرها، ما لم تكن هذه القوى مسلّحة أيضاً، وباتت مهمتها حماية النظام المتسلط ورأسه. وبالتالي، لم تكن هذه الجيوش يوماً وطنية، لقد شكّلت فعلياً مماليك السلطان، الذين يحمونه. في الوقت ذاته، حوّل الطاغية نفسه بديلاً للوطن، الذي يمكن أن يدمّره للحفاظ على سلطته في مواجهة الشعب، في وقتٍ يذعن لكل مطلب خارجي، يستأسد على المواطنين المساكين. ففي وقتٍ عاشت فيه هذه الجيوش الهزائم في مواجهة التحدّيات الخارجية، نجد أن "الانتصارات" التي حققتها هذه الجيوش كانت في مواجهة المواطنين العزّل.
الأمل الذي صنعته الثورة السودانية يقتله الجيش وقوات الدعم السريع، مثل الأمل الذي صنعته ثورات الربيع العربي في البلدان الأخرى، وجرى قتله عبر الجيوش التي كانت الأداة الرئيسية في تدمير حاضرها وإغلاق طريق مستقبل هذه البلدان، بصرف النظر عن الطريقة التي تم استخدام الجيش هنا أو هناك، سواء عبر الانقلاب، أو عبر شنّ الجيش الحرب على شعبه الأعزل بكل أنواع الأسلحة، أو اختفاء الجيش بالكامل، أو انقسامه ... لكن الجيش، في جميع الحالات، كان الأداة الأساسية لإفشال الثورات العربية. وما جرى ويجري في السودان من التنوعات المدمّرة التي شهدتها هذه البلدان، والتي تؤكّد المؤكّد أن ليس لهذه الجيوش دورٌ وطنيٌّ على الإطلاق.