حرب السودان والتصعيد الدولي
مع تزايد التوتّر العسكري في السودان، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، صرّحت الحكومة الأميركية بأنها ستوقع عقوبات على الأفراد والجهات الذين يعيقون عملية الانتقال المدني الديمقراطي. كان التهديد يهدف إلى حثّ المجلس العسكري (الحاكم) على التوقيع على اتفاق تسليم السلطة للقوى المدنية وإنهاء انقلاب 25 أكتوبر.
وفي الأسبوع الأخير من الشهر الثامن لحرب السودان، تبدو الأمور أسوأ مما كانت عليه قبل عام. أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن عقوباتٍ ضد مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق، صلاح عبدالله قوش، ونائبه ومدير جهاز الأمن الأسبق، محمد عطا، والمدير الأسبق لمكتب رئيس الجمهورية، المعزول عمر البشير، طه عثمان الحسين. الاتهامات التي وجهتها لهم وزارة الخزانة هي ذاتها التي وجهتها قبل أسابيع لزعيم الحركة الإسلامية السودانية علي كرتي: تقويض السلام والأمن والاستقرار في السودان.
لا تترك هذه العقوبات أي فرصةٍ لإنكار دور الحركة الإسلامية السودانية، وقيادات النظام السابق وعناصره، في الحرب الجارية. كما يمكن قراءتها في سياق التصعيد السريع في حربٍ أخرى تخوضها السلطة العسكرية ضد المجتمع الدولي. فقبل أيام، فاجأت السلطة العسكرية مجلس الأمن بطلب عدم التجديد لبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال (يونيتامس)، بعد أسابيع من إعلان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البعثة، فولكر بيرتس، شخصاً غير مرغوب فيه، ومنعه من دخول السودان، ما دفعه إلى الاستقالة من منصبه. وجاء طلب مندوب السودان في الأمم المتحدة بعدم التجديد للبعثة مخالفاً لما تسرّب عن لقاء قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في نيويورك، وما راج أنه تم الاتفاق عليه بمزيد من التعاون بين السلطة العسكرية والمجتمع الدولي، للوصول إلى حلّ سلمي للحرب وإجراء عملية تحول ديمقراطي. لم تكن الدول الأعضاء في مجلس الأمن متحمّسة لإنهاء عمل البعثة، لكن عدم الرغبة في الصدام مع الفيتو الروسي جعل قرار إنهاء عمل البعثة أقلّ كلفة للمجتمع الدولي.
تزامنت هذه الأحداث مع تعليق منبر جدّة التفاوضي، الذي بدأ جولته الأخيرة وسط كثير من التفاؤل، وآمال كبيرة بالوصول إلى حل سلمي يوقف معاناة سبعة ملايين نازح سوداني، وحوالي 25 مليوناً آخرين يواجهون خطر المجاعة. لكن المنبر لم ينجح في تحقيق أي اختراق حقيقي، وتوقف عند عقبة قبول قوات الدعم السريع إخلاء الأحياء السكنية ومنازل المواطنين المحتلة، مقابل نشر نقاط تفتيشها العسكرية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها بشكل علني وآمن. وهو ما يعني عملياً الخطوة الأولى لوجود سلطتيْن تنفيذيتين في العاصمة الخرطوم، تتقاسمان السيطرة وحكم البلاد. وهو طموحٌ لدى قوات الدعم السريع ظهرت بوادره في بعض مدن دارفور التي سيطرت عليها، وبدأت في إدارتها كسلطة حكومية. كما أعاق أيضاً رفض الجيش القبض على المطلوبين الفارّين من عناصر النظام السابق أي فرصة لخروج جولة المفاوضات بنتيجة مرضية.
على ضوء ما سبق، يمكن فهم تصريح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بأن عناصر من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع والمليشيات القبلية المتحالفة معها ارتكبوا جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. هذا الاتهام، المعروف إلى حد كبير والمثبت بشهادات وأدلة كثيرة، لم يكن ممكناً دبلوماسياً لولا معركة "ليّ الأذرع" التي يخوضها المجتمع الدولي ضد الطرفين المتحاربين. إذ يبدو أن الوسطاء الدوليين وصلوا إلى قناعة بعدم التعويل على جدّية الطرفين في الوصول إلى حل سلمي، ما يجعل الضغط عبر العقوبات السياسية الأقرب إلى التنفيذ. لكن مع زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الخليج يبدو الاهتمام الروسي المتزايد بالمنطقة، وأحد أهم ملفّاتها هو حرب السودان، مؤشّراً إلى حاجة الولايات المتحدة وحلفائها إلى حسم بعض الملفّات، قبل أن تنجح موسكو في سحبها منهم. وهذا عاملٌ إضافي في تعقيد المسألة السودانية، إذ أصبحت، للأسف، جزءاً مهماً من صراع النفوذين، الإقليمي والدولي، وليست مجرّد صراع داخلي على السلطة بين حلفاء انقلاب 25 أكتوبر.